تصريحات الكاتب والباحث السياسي سعيد شاوردي، والباحث في العلاقات الدولية بمجلس الشرق الأوسط للسياسات ماركو مسعد، خلال ظهورهما في برنامج “رادار” على سكاي نيوز عربية، رسمت خريطة معقدة لموازين القوى الراهنة، كاشفةً عن تباينات جوهرية بين واشنطن وتل أبيب، وعن حسابات إيرانية تقوم على مزيج من الردع والاستعداد للمبادرة.
وفيما تتحدّث إسرائيل عن احتمالات مواجهة قريبة، تتسارع في المقابل مؤشرات استعداد طهران لمعادلة قد تبدأ فيها الضربة الأولى، اعتمادا على “مبررات” أحداث سابقة وتقديرات حول قدراتها العسكرية المتطورة.
واشنطن.. بين التهدئة والحزم العسكري
يرى ماركو مسعد أنّ الولايات المتحدة، رغم ارتفاع مستوى التوتر، ليست في وارد الانخراط في حرب كبرى في هذه المرحلة، إذ تفضّل إدارة التصعيد بجرعات محسوبة، بما يشبه إلى حدّ كبير أسلوب الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
واشنطن، وفق تقديراته، تركّز حاليا على تثبيت وضعها الإستراتيجي في غزة، ما يجعل أي انفجار إقليمي واسع غير مرغوب فيه قبل اكتمال ترتيباتها.
ومن هنا، يصعب توقّع منحها الضوء الأخضر لإسرائيل لتنفيذ عملية عسكرية كبرى ضد إيران في المدى القريب، باستثناء عمليات محدودة تُستخدم للضغط السياسي، وليس للحسم العسكري.
اختلاف جوهري في الأولويات بين واشنطن وتل أبيب
يشدّد مسعد على أنّ السياسة الأميركية في المنطقة تحكمها مصالح أوسع من الحسابات الإسرائيلية المباشرة، إذ ترتبط باستقرار أسواق الطاقة، والتوازنات الدولية مع الصين وروسيا، وإدارة المشهد في غزة.
وفي المقابل، تعتبر إسرائيل أنّ إيران تمثّل تهديدا “وجوديا”، ما يجعل حساباتها أكثر ضيقاً وتركيزاً، وأكثر اندفاعاً نحو الخيار العسكري.
هذا التباين البنيوي بين المصلحتين ينتج فجوة زمنية في قرار الحرب: ما تستعجله تل أبيب قد لا تراه واشنطن مناسباً، والعكس صحيح.
إسرائيل.. جاهزية كاملة لكن انتظار للإذن الأميركي
يكشف مسعد أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تتعامل مع إيران باعتبارها الخطر الأول على أمنها القومي، وأنها مستعدة لعمل عسكري حاسم، إلا أنّ القدرة على التنفيذ تبقى رهينة قرار أميركي.
وفي الوقت نفسه، تبرز تقارير إسرائيلية، وفق ما يورده مسعد، تتحدث عن أنّ إيران باتت جاهزة لسيناريو «الضربة الأولى»، استناداً إلى عملية عسكرية سابقة حمّلت طهران إسرائيل مسؤوليتها، وأدّت إلى «خسائر كبيرة في الصف الأول من قياداتها».
المعادلة الإسرائيلية.. الحرب قرار لكن التنفيذ مشروط
إسرائيل، رغم جهوزيتها، لا تستطيع خوض حرب واسعة دون غطاء أميركي سياسي وعسكري ولوجستي. وفي غياب هذا الغطاء، تتحول خياراتها إلى ضربات محدودة أو عمليات تكتيكية لا تغيّر قواعد الاشتباك.
هذا الانتظار نفسه يخلق مساحة لإيران للمناورة، ويزيد احتمال أن ترى طهران في التأخير الأميركي فرصة لفرض معادلتها الخاصة.
بين خطاب الردع وفكرة المبادرة
يقدّم سعيد شاوردي رؤية أكثر تقدّماً في تحليل السلوك الإيراني، إذ يؤكد أن إيران لا تستبعد إطلاق الحرب بنفسها، وأنها قد تُقدم على ضربة أولى إذا اعتبرت أن الهجوم الإسرائيلي بات حتميا.
ويشير شاوردي إلى أنّ طهران تمتلك “مبرّرا” جاهزا: الهجوم المنسوب إلى إسرائيل والذي خلّف «خسائر كبيرة جدا في الصف الأول من قياداتها»، الأمر الذي يجعل ضربة استباقية، في نظر القيادة الإيرانية، “عمل دفاعي” وليس هجوما.
حلفاء إيران.. أدوار ثانوية في الضربة الأولى
يوضح شاوردي أن طهران تدرك محدودية قدرات حلفائها في التأثير الاستراتيجي العميق داخل إسرائيل. ورغم أهمية دورهم في الضغط غير المباشر، لا تعتمد إيران عليهم في تنفيذ ضربة أولى، بل تعتبر أنّ أي عمل حاسم يجب أن يكون “إيرانيا خالصا”.
زيادة القوة بنسبة 40 بالمئة مقارنة بالدورة السابقة
وفق شاوردي، استطاعت إيران أن ترفع قوتها العسكرية بنسبة تُقدّر بـ 40% مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب السابقة، بما يشمل تطوير قدراتها الصاروخية، وأنظمة الدفاع الجوي، والطائرات المسيّرة، إضافة إلى تحسين البنية التكنولوجية لمنظومات القيادة والسيطرة.
سدّ الثغرات.. وبناء شبكة دفاعية مرنة
يؤكد شاوردي أن إيران عالجت «كل نقاط ضعفها السابقة» التي ظهرت خلال هجمات سابقة، ما يجعلها اليوم أكثر استعدادا لصدّ ضربة إسرائيلية محتملة، أو لشنّ عملية مضادة ذات أثر مباشر.
ويشير كذلك إلى أنّ القدرة الدفاعية الإيرانية باتت قادرة على “حماية البنية الحيوية” بدرجة أعلى مما كانت عليه، بما يحدّ من قدرة إسرائيل على تحقيق «ضربة ساحقة أو شلّ القدرات» كما حدث في سيناريوهات تاريخية.
46 عاما من “نكث الوعود” كما تراها طهران
يشدد شاوردي على أن إيران لا ترى في الضغوط الأميركية سببا للتراجع أو تقديم تنازلات، بل تشير إلى تجربة تمتد 46 عاما تعتبر فيها أنّ واشنطن “تنكث عهودها” مرارا.
وبالتالي، لا يعتقد الإيرانيون—وفق تحليل شاوردي—أن تقديم تنازلات هو طريق للحل، لأن الولايات المتحدة لن تلتزم بها على المدى الطويل.
الاقتصاد الإيراني.. هشاشة كبيرة لكن بلا تأثير سياسي
رغم الأزمات الاقتصادية:
- نقص المياه
- العقوبات المشددة
- الضعف الداخلي
- تردّي البنية التحتية
فإن إيران، بحسب شاوردي، “لن تقدّم تنازلات” بشأن برنامجها النووي أو قوتها الدفاعية.
ويرى أن الحل الوحيد لمنع إيران من الوصول إلى السلاح النووي هو منحها «مكاسب اقتصادية» تعالج جذور التوتر، وليس الضغط العسكري أو العقوبات.
احتمالات الحرب… بين المبادرة والردّ والتصعيد المضبوط
سيناريو الضربة الإسرائيلية
يرى مسعد أنّ إسرائيل قد تقدم على عمل عسكري، لكن ذلك مرتبط تماما بقرار واشنطن. بدون ضوء أخضر أميركي، يبقى السيناريو الأقرب هو عمليات محدودة لا تصل إلى مستوى الحرب الواسعة.
سيناريو الضربة الإيرانية الأولى
يضع شاوردي هذا السيناريو كاحتمال قائم، اعتمادا على:
- “مبرر” الهجوم السابق الذي كلّف إيران خسائر قيادية بارزة.
- تقديرات طهران بأن إسرائيل تخطّط للهجوم عليها لاحقا.
- شعور المؤسسة العسكرية الإيرانية بأنها باتت في موقع قوة أفضل.
سيناريو التصعيد المضبوط
هذا هو السيناريو الأقرب للولايات المتحدة وفق رؤية مسعد، حيث تواصل واشنطن الضغط على إيران دون الوصول إلى حرب تُعطّل مشروعها في غزة والشرق الأوسط.
تبدو المنطقة اليوم أمام لحظة حساسة تتقاطع فيها حسابات القوى الكبرى والإقليمية. إسرائيل ترى الحرب مسألة وقت وحاجة أمنية وجودية، لكنها تفتقر إلى القرار الأميركي الحاسم.
وإيران تستعد لسيناريوهات متعددة، بينها الضربة الأولى التي قد تُبرّرها بالهجوم الذي طال صفّها القيادي. أما الولايات المتحدة، فتواصل إدارة “التصعيد المحسوب”، حيث لا تريد حربا واسعة ولا ترغب في إظهار ضعف، لتبقى المنطقة رهينة لعبة توازنات دقيقة، يكون فيها الشرارة الأولى—سواء من إسرائيل أو إيران—قادرة على جرّ الجميع إلى مواجهة لا يمكن ضبط مداها.
