تجري القهوة العربية في دماء محبيها، وبقدر المحبة تكون الحيرة. إذ تطالعنا الدراسات الغذائية حول القهوة العربية بنتائج تبدو أحيانا متناقضة تحير القارئ؛ تقول بعض الدراسات إن القهوة العربية مفيدة، ودراسات أخرى تقول إنها ضارة. غير أن فريقا بحثيا من معهد “لايبنيز لبيولوجيا النظم الغذائية” بجامعة ميونخ التقنية بألمانيا، وضع يده على سبب التناقض، ومن ثم سعى لتوفير حل عملي يفض الاشتباك.
فقد وجد الباحثون أن سبب تناقض نتائج الدراسات هو أنها تعتمد في بياناتها المتعلقة بالاستهلاك إلى حد كبير على التقارير الذاتية من قبل المشاركين، وهي ليست دقيقة دائما، مما يؤثر في الصلاحية العلمية للدراسات الغذائية. والحل الذي اقترحوه هو البحث عن مؤشرات حيوية موثوقة (مادة محددة) يمكنها التمييز بشكل موضوعي بين محبي القهوة وكارهيها.
وقد كان العلماء يعتمدون على التقارير الذاتية لأنهم لم يجدوا مادة محددة عند قياس تركيزها في الجسم يتمكنون من معرفة ما إذا كان هذا الشخص يستهلك القهوة بكثافة أم لا.
واقترح الباحثون بجامعة ميونخ التقنية عام 2011 لأول مرة مركب القهوة المحمصة “ميثيل بيريدينيوم إن” مؤشرا حيويا يمكن استخدامه للتمييز الدقيق، غير أن دراسة جديدة نُشرت مؤخرا بالدورية المتخصصة في المشروبات “بفريجيز”، هي أول دراسة تتحقق بشكل شامل من فعاليته على نطاق موسع كأحد المؤشرات الحيوية، وتوصي باستخدامه بعد أن أثبتت تجاربهم أهميته الكبيرة وتميزه عن مؤشرات حيوية أخرى اقتُرحت في دراسات سابقة.
ما هو “مركب ميثيل بيريدينيوم إن”؟
يتكون مركب “ميثيل بيريدينيوم إن” أثناء عملية تحميص حبوب البن الخضراء من مادة قلوية طبيعية توجد بكثرة في الحبوب تسمى “تريغونلين”، فعندما تتعرض حبوب البن الخضراء لحرارة عالية (عادة ما تزيد عن 220 درجة مئوية أثناء التحميص) يخضع “التريغونيلين” لتغيرات كيميائية ويشكل مركب “ميثيل بيريدينيوم إن”.
ووفق بيان صحفي أصدره معهد لايبنيز لبيولوجيا النظم الغذائية، فإن هذا المركب يوجد بشكل خاص في حبوب القهوة العربية “أرابيكا” و”روبوستا” المحمصة، ولا يوجد بكميات كبيرة في مصادر الطعام أو المشروبات الأخرى، وهو مستقر كيميائيا، وبالتالي يمكن اكتشافه في سوائل الجسم المختلفة مثل الدم وبلازما الدم والبول بعد تناول القهوة ليكون بمثابة علامة حيوية محتملة لتناول القهوة، مما يسمح للباحثين بالتمييز بشكل موضوعي بين شاربي القهوة وغير شاربيها في الدراسات الغذائية.
وتأكد الباحثون خلال الدراسة من فعالية هذا المؤشر الحيوي بعد أن قاموا بتحليل عينات الدم والبلازما والبول من أكثر من 460 شخصا من “فريسينج” و”نورمبرغ” بألمانيا، إذ وجدوا أنه يمكن اكتشافه بسهولة وبشكل متكرر في سوائل الجسم المختلفة خلال بضع ساعات وحتى خلال أيام من تناول القهوة، وقد تختلف المدة المحددة اعتمادا على عوامل مثل التمثيل الغذائي الفردي وعادات استهلاك القهوة وتوقيت جمع العينات.
سلبيات المؤشرات الأخرى
سبق أن تحدثت دراسات أخرى عن مؤشرات حيوية غير مركب “ميثيل بيريدينيوم إن” يمكن استخدامها، مثل أحماض الهيدروكسي سيناميك، ومستقلبات الفوران، وتعرف الأولى بأنها مجموعة من المركبات الفينولية الموجودة في الأطعمة المختلفة بما في ذلك القهوة، حيث تخضع تلك الأحماض لتحولات كيميائية أثناء تحميص القهوة، مما يؤدي إلى تكوين مستقلبات مختلفة، واقتُرحت بعض هذه المستقلبات -مثل “كبريتات حمض الكافيين” و”حمض الفيروليك”- كمؤشرات حيوية لتناول القهوة.
أما “مستقلبات الفوران” فهي فئة من المركبات العضوية التي يمكن أن تتشكل أثناء عملية تحميص حبوب البن، وحُددت بعض مستقبلات الفوران -مثل “هيدروكسي بروبيل 3″ و”ميثيلفوران 2”- كمؤشرات حيوية محتملة لاستهلاك القهوة بسبب وجودها في القهوة المحمصة.
ولكن هذه المؤشرات الحيوية كان يعيبها ما يلي:
- افتقادها الخصوصية: فالعديد من هذه المركبات ليست مخصصة لاستهلاك القهوة، ويمكن العثور عليها في الأطعمة أو المشروبات الأخرى، وهذا النقص في التحديد يجعل من الصعب تحديد كمية القهوة بدقة بناء على وجود هذه المؤشرات الحيوية فقط.
- التمثيل الغذائي والتقلب: يمكن أن يختلف استقلاب هذه المركبات في الجسم بين الأفراد، مما يؤدي إلى اختلافات في تركيزاتها في سوائل الجسم، كما يمكن لعوامل مثل الاختلافات الجينية والعادات الغذائية والتمثيل الغذائي الفردي أن تؤثر في مستويات هذه المؤشرات الحيوية، مما يزيد من تعقيد استخدامها كمؤشرات موثوقة لاستهلاك القهوة.
- التوافر والتوحيد القياسي: فقد لا تكون بعض هذه المركبات متاحة بسهولة كمواد قياسية للتحليل، مما يجعل من الصعب تحديد مستوياتها بدقة في العينات البيولوجية، ويعد توحيد الأساليب التحليلية والمواد المرجعية أمرا ضروريا لضمان دقة قياسات العلامات الحيوية.
- تعقيد التحليل: قد يتطلب تحليل هذه المركبات كمؤشرات حيوية تقنيات وأدوات تحليلية معقدة، والتي يمكن أن تتطلب الكثير من الموارد وتستغرق وقتا طويلا، وهذا التعقيد يمكن أن يحد من التطبيق العملي وجدوى استخدام هذه المؤشرات الحيوية في الدراسات الغذائية واسعة النطاق أو الإعدادات السريرية.
- تفسير النتائج: حتى لو اكتُشفت هذه المؤشرات الحيوية في العينات البيولوجية، فإن تفسير النتائج من حيث تناول القهوة قد يكون أمرا صعبا بسبب تأثير العوامل المختلفة في تركيزاتها، ويمكن أن يؤثر هذا الغموض في موثوقية وصحة استخدام هذه المركبات كمؤشرات حيوية لاستهلاك القهوة.
أفضلية المؤشر الجديد.. 4 مزايا
يتمتع المؤشر الحيوي الجديد (مركب ميثيل بيريدينيوم إن) بأربع مزايا أشارت إليها الدراسة، وهي:
- الخصوصية: فالمركب خاص بالقهوة المحمصة، وخاصة حبوب القهوة العربية والروبوستا، ويرتبط تكوينه بشكل مباشر بعملية التحميص، مما يجعله علامة حيوية محددة للغاية لتناول القهوة، وتقلل هذه الخصوصية من احتمالية وجود نتائج كاذبة أو عدم دقة في تحديد استهلاك القهوة.
- الاستقرار والمتانة: فالمركب مستقر كيميائيا وله خصائص حركية راسخة في الجسم، ويمكن اكتشافه في سوائل الجسم المختلفة -بما في ذلك الدم والبلازما واللعاب والبول- بعد تناول القهوة.
- التوافر الحيوي: يتمتع بتوافر حيوي مرتفع، مما يعني أنه يجري امتصاصه بسهولة في مجرى الدم ويفرَز في سوائل الجسم بعد استهلاك القهوة، وهذا يسمح بسهولة الكشف والقياس الكمي لمستوياته في العينات البيولوجية، مما يسهل استخدامه كمؤشر حيوي في الدراسات الغذائية والأبحاث السريرية.
- سهولة التحليل: عادة ما يتضمن اكتشافه كمؤشر حيوي تقنيات تحليلية مباشرة، مثل قياس الطيف الكتلي السائل فائق الأداء، وهذه البساطة في التحليل تجعله علامة حيوية عملية وفعالة من حيث الكلفة لاستهلاك القهوة، خاصة في الدراسات واسعة النطاق.
نتائج أدق.. دراسات تكميلية
تحمل المزايا السابقة وعدا بمؤشر حيوي يعطي نتائج دقيقة في الدراسات الغذائية التي تبحث في الارتباط بين استهلاك القهوة والنتائج الصحية.
يقول أستاذ العلوم الغذائية بجامعة المنصورة المصرية خالد محمدي في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”: إنه “من خلال تقديم علامة حيوية موثوقة وموحدة لتناول القهوة، يمكن للباحثين إجراء تحليلات أكثر قوة لتوضيح الفوائد الصحية المحتملة أو المخاطر المرتبطة باستهلاك القهوة”.
غير أن محمدي يرى أن هذه الدراسة تحتاج إلى استكمال في نقطتين وصفهما بأنهما “في غاية الأهمية”، وهما:
- أولا: التحقق من صحة مركب “ميثيل بيريدينيوم إن” كمؤشر حيوي لاستهلاك القهوة في مجموعات سكانية متنوعة لضمان قابلية تعميمه وإمكانية تطبيقه عبر مجموعات ديمغرافية مختلفة وخلفيات ثقافية وأنماط غذائية مختلفة.
- ثانيا: إجراء دراسات طويلة المدى لتقييم استقرار المؤشر الحيوي في سوائل الجسم على مدى فترات زمنية طويلة.
لذا يبدو أننا خلال السنوات القليلة القادمة قد نصل إلى إجابة نهائية عن سؤال: هل القهوة مفيدة لأجسامنا أم ضارة؟