لم يكن هذا التصريح مجرد تعبير عن موقف تفاوضي، بل كشف عن مرحلة جديدة في طريقة تفكير طهران، التي تحاول أن توازن بين خطاب الانفتاح الدبلوماسي واستمرار خطواتها الميدانية في تخصيب اليورانيوم وتعزيز نفوذها الإقليمي.
لكن خلف تلك العبارات التي توحي بالانفتاح، تترسخ تساؤلات عميقة حول نوايا طهران الحقيقية: هل تسعى فعلاً إلى حل تفاوضي؟ أم أن المفاوضات لم تعد سوى وسيلة للمماطلة وكسب الوقت، فيما تمضي البلاد بثبات نحو فرض واقع نووي جديد؟
طهران بين القانون الدولي والواقعية الجديدة
من وجهة نظر الكاتب والباحث السياسي مصدق بور خلال حديثه إلى غرفة الأخبار على سكاي نيوز عربية ، فإن إيران باتت تتعامل مع الملف النووي بمنطق “الشرعية القانونية” وليس بمنطق “الانصياع للضغوط”.
يرى بور أن طهران ترفض توصيف “آلية الزناد” الأوروبية باعتبارها “غير قانونية وغير موضوعية”، مشيراً إلى أن هذه الآلية، التي تتيح إعادة فرض العقوبات الأممية تلقائيا في حال إخلال إيران بالتزاماتها، لم تعد قائمة عملياً منذ صدور قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي ألغى اللجنة السابقة للعقوبات.
ويذهب بور أبعد من ذلك حين يوضح أن روسيا والصين تستطيعان استخدام “حق النقض” لعرقلة أي محاولة لإحياء العقوبات السابقة، لأن أي تحرك في هذا الاتجاه – من وجهة نظره – يتعارض مع المادة 100 من ميثاق الأمم المتحدة.
بكلمات أخرى، ترى طهران أن ميزان القوى داخل مجلس الأمن يمكن أن يعمل لصالحها، وأن النظام الدولي لم يعد قادراً على فرض إرادته كما كان قبل عقد من الزمن.
بهذا الفهم، فإن ما تسميه إيران اليوم بـ”الوضع الجديد” لا يتعلق فقط بالملف النووي، بل بترتيب شامل لموازين القوة في النظام الدولي. فطهران تعتبر أن التحالف الروسي–الصيني يمنحها مظلة ردع سياسية، تتيح لها مساحة مناورة أكبر في مواجهة الغرب، حتى في ظل تصاعد الضغوط الأميركية والأوروبية.
مأزق الاتفاقات القديمة.. من فيينا إلى القاهرة
يشير مصدق بور إلى أن إيران لم تعد ترى فائدة في الاتفاقات السابقة، بما فيها اتفاق القاهرة الأخير الذي تم التوصل إليه برعاية مصرية.
فبحسب قوله، “إيران حذرت منذ البداية أنه في حال تفعيل الآلية الأوروبية فسيُعتبر الاتفاق لاغياً”، وهو ما اعتبرته طهران بالفعل بعد التهديدات الأوروبية الأخيرة.
في نظر بور، ما تحتاجه إيران اليوم هو اتفاق جديد بشروط جديدة، يقوم على قاعدة “خطوة مقابل خطوة”، أي أن تقدم إيران تنازلات محددة فقط مقابل إجراءات ملموسة من الغرب.
وهذه الصيغة، وإن كانت تبدو براغماتية، فإنها تكشف في عمقها عن استراتيجية تقوم على كسب الوقت وإعادة التفاوض إلى المربع الأول كلما اقتربت الأطراف من الحسم.
ذلك النمط من التفاوض، الذي يجمع بين الانفتاح الظاهري والتصلب العملي، هو ما جعل كثيرين في الغرب يعتبرون أن إيران لا تريد التوصل إلى اتفاق نهائي بقدر ما تسعى لإدامة العملية التفاوضية ذاتها.
فبالنسبة لطهران، استمرار التفاوض يعني استمرار الاعتراف الدولي بها كقوة نووية محتملة، ويمنحها في الوقت ذاته فرصة لتطوير قدراتها التقنية دون أن تُتهم رسمياً بخرق الاتفاقات.
بين العقوبات والاقتصاد الموازي
من زاوية أخرى، يقلل مصدق بور من تأثير عودة العقوبات المحتملة، قائلاً إن “العقوبات لم تُرفع فعلياً منذ البداية”، وإن إيران لم تستفد من أي اتفاقات سابقة بسبب القيود على النظام المصرفي.
ويرى أن أي تفاوض جديد لن يجلب لطهران مكاسب اقتصادية ملموسة ما دامت العقوبات الأميركية على البنك المركزي وقطاع الطاقة قائمة.
في المقابل، يشير إلى أن إيران طورت اقتصادا موازياً قادراً على التكيف مع العقوبات، عبر قنوات مالية غير رسمية وشبكات تصدير خفية، الأمر الذي يجعلها أقل هشاشة مما يعتقده خصومها. لذلك، فإن العودة إلى طاولة المفاوضات بالنسبة لطهران ليست استسلاماً، بل وسيلة لتخفيف الضغط دون تقديم تنازلات جوهرية.
ورغم أن بور يتحدث بنبرة واثقة عن “حصانة إيران” أمام العقوبات، إلا أن الواقع الداخلي يشير إلى هشاشة متزايدة في الاقتصاد، وتراجع العملة، وتضخم مفرط يثقل كاهل المواطن الإيراني. وهو ما يطرح سؤالاً جوهرياً: إلى أي مدى يمكن لطهران أن تواصل سياستها النووية دون أن تنفجر تناقضات الداخل؟
في أحد أكثر تصريحاته إثارة، يقول مصدق بور إن “إيران ليست ليبيا ولا أفغانستان ولا العراق”، في إشارة إلى رفض أي نموذج تسليم أو خضوع للغرب. بالنسبة له، المفاوضات ليست ساحة تنازل، بل ميدان مقاومة سياسية متوازنة، تُستخدم فيه القدرات النووية والصاروخية كورقة ضغط رئيسية.
ويرى بور أن بلاده تتعامل بندية مع واشنطن، وأن أي اتفاق يجب أن يُبنى على مبدأ “وجهاً لوجه، ومرحلة مقابل مرحلة”، مشدداً على أن طهران “لن تمنح الغرب فرصة لتكرار سيناريوهات الخداع السابقة”.
هذه القراءة تكشف عن مفارقة جوهرية: فبينما يعلن عراقجي أن الدبلوماسية هي الحل الوحيد، يتحدث باحثون إيرانيون من داخل النظام بروح التحدي، معتبرين أن الصراع مع الغرب “صراع شرعية لا تسوية”، وأن إيران لن تتراجع عن حقها في التخصيب حتى بنسبة 60 في المئة لأنها تعتبره “حقاً قانونياً وعلمياً”.
الوكالة الدولية للطاقة الذرية في دائرة الشك
يشير مصدق بور إلى أن التعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية ليس دائماً بناءً، بل محكوم بانعدام الثقة.
ويقول إن طهران قدمت أجوبة على جميع استفسارات الوكالة حول المواقع “المشبوهة”، لكن الأخيرة “تعود بعد أشهر لفتح الملفات نفسها من جديد”، وهو ما تعتبره إيران دليلاً على تسييس الوكالة وخضوعها لتقارير إسرائيلية.
هذا الاتهام يعيد إلى الأذهان نمطا طويلا من الشك بين الجانبين. فإيران ترى أن الوكالة تتصرف كذراع استخباري غربي، فيما تؤكد الوكالة أن إيران ما زالت ترفض الشفافية الكاملة. وبين الاتهامين، يظل الملف النووي في حالة جمود معقد، إذ لا انهيار تام للاتفاق ولا عودة فعلية إليه.
استفادة ثم انحراف
من باريس، يقدّم الأكاديمي والباحث السياسي هلال العبيدي رؤية مغايرة تماماً. فهو يعتقد أن إيران استغلت اتفاق 2015 لا للانفتاح الاقتصادي أو تحسين حياة شعبها، بل لتقوية أذرعها العسكرية في المنطقة.
يقول العبيدي إن طهران “استفادت من مليارات الدولارات التي أطلقتها إدارة أوباما بعد الاتفاق، لكنها استخدمتها في تطوير برامجها الباليستية والطائرات المسيرة، ودعم أذرعها في العراق وسوريا واليمن ولبنان”. هذا المسار التصعيدي – برأيه – هو ما أغضب إدارة ترامب ودفعها للانسحاب من الاتفاق عام 2018.
كما يؤكد العبيدي أن إيران لم تكن شفافة حتى في ظل وجود مراقبي الوكالة الدولية للطاقة الذرية داخل أراضيها، مشيراً إلى أن طهران كانت ترفع الكاميرات وتزيد التخصيب كلما صدر قرار جديد. وهو يستشهد بتصريح مدير الوكالة رفائيل غروسي، الذي قال إن الكميات المخصبة المفقودة من إيران – والمقدرة بنحو 440 كيلوغراماً – تكفي لصنع 10 قنابل نووية، وهو رقم يثير القلق داخل المؤسسات الغربية.
بين “الهدف الثابت” وطبول الحرب
يرى العبيدي أن إيران تحولت إلى هدف ثابت في نظر المجتمع الدولي، بعد أن خسرت القدرة على المناورة.
ويشير إلى أن الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، لم تعد تبحث عن “احتواء” إيران، بل عن تحالف دولي جديد لإيقافها قبل أن تبلغ مرحلة امتلاك السلاح النووي.
ويحذر من أن “من لم يسمع طبول الحرب فهو أطرش”، في إشارة إلى أن التحالف الأوروبي الأميركي الإسرائيلي يسير باتجاه مواجهة مفتوحة مع إيران، قد لا تقتصر على العقوبات الاقتصادية.
فالمعادلة تغيّرت، بحسب قوله، “من اتفاق 3.67 في المئة عام 2015 إلى مطلب صفر تخصيب اليوم”، أي أن الغرب لم يعد مستعداً للتعايش مع أي برنامج نووي إيراني مهما كان محدوداً.
أوروبا بين السيادة والتهديد
فيما اعتبر مصدق بور أن أوروبا “ذيل للولايات المتحدة”، ردّ العبيدي بحدة، مؤكداً أن “الاتحاد الأوروبي يمتلك قراره السيادي، وأن هناك مصالح مشتركة عبر ضفتي الأطلسي لا تلغي استقلالية القرار الأوروبي”.
ويرى أن الأوروبيين، رغم ترددهم في بعض الملفات السابقة، مستعدون اليوم للمشاركة في أي تحرك عسكري ضد إيران، بخلاف موقفهم المتحفظ من غزو العراق عام 2003.
ويضيف أن “دول الاتحاد الأوروبي تأخذ تهديدات إيران بجدية، خاصة بعدما لوّح بعض مسؤوليها باستهداف باريس بالصواريخ إذا شاركت فرنسا في أي حرب”.
هذا التهديد، من وجهة نظره، عزز قناعة الأوروبيين بأن إيران لم تعد شريكاً يمكن الوثوق به دبلوماسياً، بل طرفاً يزاوج بين المفاوضة والابتزاز العسكري.
الصين وروسيا… شركاء لا ضامنون
رغم رهان طهران على روسيا والصين، يشير العبيدي إلى أن الثقة في هذين الحليفين ليست مطلقة. فالصين بدأت مؤخراً بتشديد الرقابة على موانئها، ومنعت ناقلات إيرانية من تهريب النفط عبر “الظل التجاري”، ما يعني أن بكين توازن بين مصالحها مع الغرب ومكاسبها من التعاون مع طهران.
كما أن روسيا، المنهمكة في حربها في أوكرانيا، لن تدخل مواجهة مباشرة دفاعاً عن إيران. وبذلك، فإن المراهنة على تحالف الشرق قد تمنح طهران غطاءً دبلوماسياً مؤقتاً، لكنها لا توفر لها مظلة أمنية حقيقية في حال اندلاع مواجهة عسكرية.
المعضلة الإيرانية.. تفاوض بلا نهاية
تتلاقى قراءتا بور والعبيدي عند نقطة واحدة: أن إيران تدرك حجم المأزق الذي تواجهه. لكنها تختلف في كيفية التعامل معه. فبور يرى أن طهران قادرة على الصمود والمناورة حتى يلين الغرب، بينما يعتقد العبيدي أن الغرب هذه المرة لا ينوي التراجع، وأن المرحلة المقبلة ستشهد تصعيداً غير مسبوق سياسياً وربما عسكرياً.
في الجوهر، يبدو أن إيران ما زالت تراهن على أن الوقت في صالحها، وأن كل شهر إضافي من المفاوضات يمنحها قدرة أكبر على تثبيت أمر واقع نووي يصعب التراجع عنه.
أما الغرب، فبدأ يدرك أن هذه المماطلة ليست تكتيكاً تفاوضياً، بل استراتيجية منهجية لإدامة الغموض حتى الوصول إلى العتبة النووية.
ما بعد الدبلوماسي..: حدود اللعب بالنار
في ظل هذه المعادلة، تتزايد الأصوات الغربية التي تطالب بحسم الملف النووي قبل أن يتحول إلى أزمة وجودية. ويبدو أن التلويح الإيراني باستهداف العواصم الأوروبية لم يعد يُقرأ في الغرب كتهديد إعلامي، بل كمؤشر على عقلية توسعية تتجاوز فكرة “الردع”.
أما في طهران، فتستمر اللغة المزدوجة: دبلوماسية عراقجي الناعمة في العلن، وتهديدات باحثين ومسؤولين تتحدث عن “الرد بالصواريخ على باريس أو تل أبيب” في الخفاء. وبين هذين الخطابين، يقف الملف النووي على حافة الانفجار السياسي، وسط منطقة لم تعد تحتمل مزيداً من التصعيد.
من يملك القرار الأخير؟
تُظهر تصريحات مصدق بور وهلال العبيدي وجهين لعملة واحدة: إيران الغارقة بين رغبة في البقاء تحت المظلة الدبلوماسية وخشية من مواجهة حتمية. فبور يرى أن التفاوض هو السلاح الذي يحمي البلاد من عزلة كاملة، فيما يؤكد العبيدي أن الغرب بات ينظر إلى طهران كقنبلة موقوتة يجب نزع فتيلها بالقوة إذا لزم الأمر.
في النهاية، لا يبدو أن إيران ستتخلى عن نهجها القائم على إطالة أمد المفاوضات واستخدامها كدرع سياسي. لكنها في الوقت ذاته تقترب من نقطة اللاعودة، حيث تصبح كل خطوة نحو التخصيب العالي بمثابة رصاصة إضافية في جسد الدبلوماسية.