في قرية صغيرة من سهول مالي، حيث يستلقي نهر النيجر وسط الرمال الذهبية، جلس “الغريوت” الجد المنحدر من عائلة عُرفت بالغريوت منذ أجيال سحيقة. لم يكن الجد غريوتًا عاديا، بل وُلد وفي قلبه نغمة، وفي صوته شجن، وفي ذاكرته مئات القصص.
كان يغني تاريخ المعارك والبطولات والأسواق والحب القديم في أرض ماندينغ، لم يكن يحكي بالكلمات فقط، بل بالألحان المنبعثة من آلة الكورا ذات الـ21 وترا مصنوعا من أمعاء ماعز جبلي وقرع كبير مقطوع إلى نصفين ومغطى بجلد البقر، جلس يحكي عن تاريخ أسلافه ومهنته التي يحب، جلس يحدثني عن حكاية “الغريوت”.
من الغريوت؟
الغريوت (Grio-Griot) -الكلمة الأكثر شيوعا في الأدبيات الغربية الناطقة بالإنجليزية- أو “دجيلي” (djeli) في لغة الماندي منذ إمبراطورية مالي في القرن الـ13. ويُعرفون أيضا باسم “نياماكالاس” وتعني مدبري القوى التي تُشكِّل الكون.
يقول الكاتب المالي أمادو هامبتة با، ليوضِّح للأوروبيين أهمية المكانة التي يحتلها الغريوت أو الدجيلي في مجتمعات غرب أفريقيا: “مع وفاة كل غريوت، تحترق مكتبة وتندثر للأبد”.
الغريوت هم حُراس وسدنة التراث الشفهي في غرب أفريقيا، احتلوا مكانة مهمة في المجتمع وطوروا تقليدا شفهيا ملهما من الأغاني والقصص والروايات التاريخية والأمثال والحكايات.
فهم حفظة التاريخ والتقاليد والأساطير والأنساب في المجتمعات التقليدية في بلدان مثل مالي، والسنغال، وغامبيا، وغينيا، وبوركينا فاسو، والنيجر، ينحدرون من فئة اجتماعية تتوارث مهنة الغريوت في أسر معروفة منذ الصغر.
تتعدد أدوارهم ما بين مؤرخين، ورواة قصص، وشعراء، وموسيقيين، ومرشدين روحيين، ويحملون على عاتقهم نقل كل هذا التاريخ والتقاليد والقيم الثقافية للأجيال القادمة.
يحظى الغريوت بمكانة اجتماعية مرموقة، ويعتبرون بمثابة مستشارين للعائلات الملكية وكبار الشخصيات، وتصنفهم العامة خبراء أنساب يعرفون أصول العائلات ووسطاء فض نزاعات.
كما يحتفظون بسجلات لجميع المواليد والوفيات والزيجات عبر أجيال القرية أو العائلة.
كما كان لهم دور سياسي، لكنه محدود وغير مباشر، فالغريوت لم يكن حاكما أو زعيما، لكنه كان حافظا للذاكرة السياسية الجماعية، وصوت السلطة التقليدية، وله تأثير كبير في الحكم والشرعية.
أدوار فنية مختلفة
يتدرب الغريوت منذ الصغر ليصبحوا خطباء وشعراء أغانٍ وموسيقيين، كذلك يقومون بأدوار فنية متعددة ومهمة في المجتمع المحلي للشعوب الناطقة بلغة الماندينغ، أدوار على شاكلة رواية القصص والأساطير الشعبية بأسلوب شائق ومؤثر عبر استخدام الشعر والموسيقى لجذب انتباه الجمهور.
كذلك إنشاد الملاحم التي تحتفي بالأبطال وتخلد الأحداث التاريخية بأصوات جميلة وأداء مسرحي ويعزفون على آلات موسيقية تقليدية، مثل القيثارة الكورا والبالافون والنجوني والطبول التي تستخدم لضبط إيقاع الحكاية وهم يغنون الأغاني. وأخيرا الغناء في مناسبات التتويج والزواج والمآتم.
وأشهر عائلات الغريوت المعروفة في مالي وديواباتيه وسيسوكو، وفي غامبيا كونتي، وفي السنغال وندور وغايي.
أشهر موسيقيي الغريوت المعاصرين: من مالي توماني دياباتيه، وياماندو دياباته أعظم عازفي الكورا، ومن السنغال بابا مال، وهو مغنٍ معاصر يمزج الغريوت بالفيوجن ومن السلالات الغريوتية المعروفة في غامبيا سالي كولاي جوباتي، وأخيرا الرمز السنغالي العالمي لموسيقى غرب أفريقيا يُسُو ندور، الذي ينحدر من طبقة الغريوت من جهة والدته والذي يزاوج في موسيقاه بين نمطي الغريوت والمابلاكس.
الكاتب الإيفواري أحمدو كوروما، الذي استكشف عمل “الغريوت الدجيلي” في رواياته، بل ووسّع نطاقه يقول: “الدجيلي لم يخشوا مطلقا من تسمية حاكمٍ مستبدٍّ باسمه، وهنا يتجلى هذا الولاء للكلمة على أكمل وجه”.
وفي رواية كوروما الساخرة “انتظار الوحوش للتصويت”، التي تُذكر فيها أسماء طغاة من جميع أنحاء أفريقيا، من صموئيل دو من ليبيريا إلى إتيان إياديما من توغو وموبوتو سيسي سيكو من الكونغو، يروي “الغريوت الدجيلي” حياة طاغية بينما يستمع الرجل نفسه:
الرئيس كوياغا..
أيها الجنرال، أيها الطاغية ..
اليوم سنغني ونحتفل باسمك وأعمالك ..
سنقول الحقيقة عن استبدادك، عن والديك وعملائك ..
الحقيقة الكاملة عن حيلك القذرة وهرائك وأكاذيبك ..
وجرائمك واغتيالاتك الكثيرة .
الغريوت رسول العاشقين
يقول دكتور أحمد الأمين أحمد الباحث في الأدب الأفريقي للجزيرة نت “لقد كان لمعظم القرى بإمبراطورية مالي غريوت خاص بها، يسرد قصص الميلاد، والوفيات، والزيجات، والمعارك، والصيد، بمصاحبة الموسيقى والشعر.
كما كانوا يتغنون بعديد من الأمور الأخرى مثل سير كبار الصيادين وانحسار عظمة زعماء القرية وأفول مجدهم.
وما زال هذا نسق حياتهم حتى اليوم، وغالبا ما يُعْتَمَد عليهم لأجل الحفاظ على التاريخ الخاص بأسرة أو قرية أو منطقة.
وما زالوا يلعبون على آلات موسيقية عتيقة يعود تاريخها إلى عدة قرون. وتصنع قيثاراتهم من القرع، أما طبولهم، فتصنع من جلد الماعز”.
ويضيف الأمين أن “الغريوت كذلك يقوم بدور رسول الغرام بين المحبين، ويتم ذلك بسبب حساسية المجتمع الذي لا يسمح بلقاء العشاق وبث لواعجهم وجها لوجه. عليه يقوم بذلك الدور مقابل مبلغ نقدي يدفعه الشباب لهذه الشريحة المبدعة، لأجل إبلاغ عشقهم لمن يحبون عبر الشعر أو الغناء”.

مصادر دخل الغريوت
تقول الكاتبة والباحثة هانا راي أرمسترونغ المتخصصة في السياسة والأمن في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل في مقال لها بصحيفة نيويورك تايمز: “منذ ولادتهم، يُعلّم الغريوت الماليون كيفية تملق الأثرياء ورأب الصدوع الاجتماعية. فمن النزاعات العائلية إلى الحروب بين العشائر، يُهدئ الغريوت الأعصاب، ويُروّض غرورهم، ويتمتع بالحصانة. قبل عدة سنوات، عندما تحوّل قتال بين المزارعين والبدو في مالي وغينيا إلى صراع مسلح، عقد الغريوت من كلا البلدين اجتماع قمة أسفر عن حل جذري للمشكل”.
الغريوت لا يعملون ضمن نموذج اقتصادي واضح المعالم، بل يعتمدون على اقتصاد الهبة والرعاية، لكن مع تطور العصر، كثير منهم انتقل إلى اقتصاد الفن الحديث، مثل التسجيلات، والحفلات، والتعليم الثقافي، من دون أن يقطعوا صلتهم بالأسس المجتمعية التقليدية.
لا يفرض الغريوت أجرا رسميا مقابل خدماتهم، ومصادر دخلهم عبارة عن إكراميات وهدايا تُعطى لهم تتفاوت بين المال في حالات مديح الأشخاص ذوي الشأن في المجتمع أو هدايا على شاكلة ماشية، وملابس، وحبوب، خاصة في الأعراس والمآتم والاحتفالات.
وبحكم ارتباطهم تاريخيا بالأسر الحاكمة في إمبراطوريات مالي وسونغاي يحصلون في الغالب على إعالة شبه دائمة “راتب” من تلك العائلات مقابل خدمتهم كمؤرخين، ومدّاحين، ومستشارين ثقافيين.
ملحمة سوندياتا كيتا
“استمعوا أيها الناس فأنا الغريوت، حامل ذاكرة الزمن، حارس أمجاد الأجداد، جئت أروي لكم قصة من زمنٍ عتيق، عن الولد الذي لم يمشِ، ثم صار ملكا يُطأطئ له الملوك. إنها حكاية سوندياتا، أسد الماندينغ” هكذا يقولون عن أنفسهم.
في مملكة نياني ولد طفل للملك ماكان كوني فاتا وامرأة غريبة تُدعى سوغولون كوندي. كانت امرأة ذات مظهر غريب وقوة غامضة، قيل إنها جاءت من الجبال بنبوءة مقدسة أن ابنها سيُصبح ملكا عظيما ويوحّد الممالك، لكن هذا الطفل، سوندياتا، وُلد ضعيفا، لا يقوى على المشي. سخر منه الجميع، واعتبروه عارا على المملكة، في حين بقيت أمه مؤمنة بنبوءتها.
حين أهان أحدهم أمه، نهض سوندياتا للمرة الأولى. تمسّك بغصن شجرة، وضرب الأرض برجليه. في لحظة واحدة، صار الطفل الذي لم يتحرك أسدا واقفا! هتف الناس، وسكتت السخرية.
بعد وفاة والده، استولى على الحكم الملك الشرير سومورو كانتي، ساحر مملكة سوسو، الذي دمّر القرى وأحرق المدن، ونشر الرعب في الماندينغ. هربت سوغولون بابنها سوندياتا إلى المنفى، وهناك تعلّم الحكمة، واختلط بالأمم، ونما في داخله الحلم الكبير.
حين اشتدت ظلمة سومورو، عاد سوندياتا وجمع القبائل تحت رايته، وأقسم أن يعيد للماندينغ مجدها. وفي معركة كيرينا التقى الجيشان، سوندياتا واجه سومورو، وكشف سر قوته السحرية، وهزمه، وحرّر البلاد. أصبح سوندياتا ماني فاي ملك الملوك، وهو لم يحكم بالسيف، بل بالعدل، ووضع أسس إمبراطورية مالي، التي ستُصبح فيما بعد من أغنى وأعظم إمبراطوريات التاريخ.
“سوندياتا لم يُخلد لأنه قاتل، بل لأنه أقام مملكة بُنيت على الحكمة والاتحاد”.
مستقبل موسيقى الغريوت
موسيقى الغريوت تمتلك مستقبلا واعدا إذا تم التوفيق بين حفظ الأصالة وتبني التطور للحفاظ على هذا الفن، فأغاني الغريوت مهددة بفقدان دورها التقليدي بسبب ضعف استخدام اللغات المحلية مؤخرا، مما أدى إلى تراجع دور الغريوت في المجتمعات.
ومع تهديد الحداثة هويتها يُتوقع استمرار دمج الغريوت مع أنماط موسيقية حديثة مثل الجاز والأفروبيت، مما يمنحها جاذبية عالمية خاصة تساعد على انتشارها خارج أفريقيا في عصر الإنترنت والمهرجانات الدولية والتوثيق الرقمي والذكاء الاصطناعي.
وحين وصلت حكاية الغريوت الجد إلى محطتها النهائية، شعر الناس بالحزن والغضب في آن واحد، وتساءل: “أتُنسى ذاكرة الأجداد؟ أتُنسى تلك الليالي حول النار حيث الكلمات تُدفئ القلوب؟ ومن سيروي تاريخ الأسلاف من الآن فصاعدا؟ ومن سيصالح القبائل ويحل الخلافات بلمسة الغريوت السحرية المدهشة؟ من سيوصل رسائل العشاق إلى محبوباتهم؟ ومن سيبدأ الحكايات بعد اليوم بجملة: في قديم الزمان، حين كان الأبطال يمشون بيننا”.