الثلاثاء _15 _يوليو _2025AH

في بلدة سويدية صغيرة تغطيها الغابات، وتخفي خلف هدوئها جريمة حدثت في الماضي، وتجددت في الوقت الحاضر، تدور أحداث مسلسل “القبة الزجاجية” Glass Dome، وهو مسلسل جريمة وتشويق نفسي من إنتاج نتفلكس. المسلسل من تأليف الكاتبة السويدية كاميلا لاكبيرغ، وأماندا هوغبيرج، وأكسيل ستيرنه، ومن إخراج هنريك بيورن وليزا فرزانه، ويعرض في ست حلقات مكثفة ومشحونة.

يدور المسلسل حول ليلى نيس، التي تلعب دورها “ليوني فينسنت” الطبيبة الشرعية ومحللة السلوك التي تعود إلى مسقط رأسها بعد موت أمها بالتبني، لتظهر في الوقت نفسه جريمة اختطاف فتاة، تعيد إليها ماضيها المؤلم وذكريات اختطافها في طفولتها. يشارك في البطولة جون هيدنبرج في دور والدها بالتبني فالتر نيس، المحقق المتقاعد الذي يخفي سرا قاتلا. ينتمي المسلسل إلى نوعية أدب الجريمة والتشويق الإسكندنافي (Nordic noir) وهو نوع أدبي وتلفزيوني ظهر في دول شمال أوروبا وحقق شهرة واسعة بفضل أجوائه الخاصة وملامحه القاتمة وإيقاعه البطيء.

ماذا لو سرق طفولتنا من أحببناهم؟

تبدأ الحلقة الأولى بعودة الطبيبة الشرعية ليلى نيس إلى بلدتها الهادئة بعد وفاة والدتها بالتبني، لكن عودتها سرعان ما تفتح أبوابا لأسئلة غامضة بلا إجابات، خصوصًا بعد مقتل صديقة طفولتها لويز في ظروف غامضة واختطاف ابنتها أليسيا. تتقاطع هذه الجريمة الحديثة مع ماض مؤلم تحمله ليلى، إذ تبدأ ذكريات اختطافها وهي طفلة بالظهور في مشاهد ضبابية ومشوشة. تعود تلك الصور إلى فترة حبسها في مكان مظلم وضيق، حيث تومض بين الحاضر والماضي دون ترتيب زمني، حتى يبدو للمشاهد أحيانًا، أن الطفلة المرتجفة قد تكون صورة من الذاكرة. أو ربما واقعا يتكرر من جديد.

يتحول الزمن داخل المسلسل إلى مساحة هشة وغير مستقرة، حيث تتداخل شخصية المرأة التي تبحث عن الطفلة المختطفة مع الفتاة التي لم تتعافَ بعد من صدمة اختطافها. وكلما اقتربت ليلى من الحقيقة، شعرت بأنها تنجرف نحو القفص الزجاجي ذاته الذي لم تغادره يوما. هذا التداخل بين الماضي والحاضر لا يعزز فقط التشويق في الحبكة، بل يكشف أيضا عن هشاشة النفس البشرية حين تُجبر على التعايش مع صدمة لم تُشف منها تماما.

 

بين التحقيق وذاكرة البطلة

لا تتجه الحبكة فقط نحو فك لغز الجريمة الجديدة، بل تتوازى معها طبقات نفسية تتكشف تدريجيا داخل عالم البطلة الداخلي. فمع تصاعد التحقيق في مقتل لويز واختطاف الطفلة أليسيا، تتسلل الشكوك نحو الأب “سعيد”، الغريب عن البلدة، مما يكشف عن مستويات من التمييز الاجتماعي ضده، دون أن تُقال بوضوح، بل تتسلل في النظرات والكلمات العابرة.

وفي العمق، تبدأ ذاكرة ليلى في الغوص أبعد من الحاضر، حيث تعود إلى ماضيها طفلةً متبناة، فتبدأ في التشكيك في الرواية الرسمية التي كبرت عليها. الذكريات لا تأتي واضحة، بل كظلال متقطعة: أبواب تُغلق، طفلة ترتجف في الظلام، انعكاس وجهها على زجاج بارد. شيء ما في هذه الصور يجعلها تتساءل: هل كانت طفولتها “المنقذة” حقا كذلك؟ أم أنها كانت سجنا مغلفا بالحنان الظاهري؟ تنمو هذه الشكوك لتطاول علاقتها بوالدها بالتبني، فتتأرجح بين مشاعر الحنان والخوف، كأن شيئًا غير معلن يخيم على علاقتهما، شيء لا يجرؤ أحد على قوله.

يتحول النصف الأول من المسلسل إلى رحلة نفسية عبر ذاكرة ليلى، تستعيد فيها فصولًا من الطفولة المسكوت عنها، وتتفكك أمامها طبقات من الصمت المجتمعي والتواطؤ، وكأن ما كُبت في الماضي بدأ يطالب بحقيقته الآن.

حين تتسلل الحقيقة عبر الذاكرة

في الحلقة الرابعة والخامسة من المسلسل، تخرج الحقائق من الظل إلى النور، وتقترب ليلى من الإجابة التي تحاول الهرب منها، ولا يصبح التساؤل عمن ارتكب الجريمة فقط، ولكن من تستر عليها أيضا، وظل يحرس القفص الزجاجي سنوات، خاصة بعد ظهور شاهد في قضية الاختطاف الحديثة، يحمل ملامح ما، تذكرها بماضيها، ويحفز وجوده ذكريات أكثر وضوحا من ماضيها، لتدخل ليلى في دوامة تفقد فيها الزمن ويتداخل الماضي بالحاضر.

يتصاعد توتر ليلى وتتزايد شكوكها، عندما تكتشف أنها محاطة بشبكة من الأكاذيب من كل من تحب. تتحول عائلتها الصغيرة إلى غرباء لا تعرفهم، وتزداد حدة الكوابيس وتتطابق مع ما يحدث في الواقع، ويتكرر ظهور الضوء الأبيض الذي يسلط بقوة على القفص الزجاجي، كإشارة بصرية إلى انكشاف السر القديم.

في هاتين الحلقتين، تتساقط الأقنعة، وتنكشف الدوافع وتضيق دائرة الشك حول “فالتر” الأب بالتبني الذي ظهر أن حبه لليلى مجرد وهم كبير. تنجح ليلى كمحققة في إظهار الحقيقة، لكنها تنهزم كابنة بمعرفة نفس الحقيقة.

الانفجار الأخير.. عندما تنكسر القبة

يصل المسلسل إلى ذروته في الحلقة السادسة والأخيرة، ويتغير التساؤل ليصبح: كيف تحملت ليلى الكذبة سنوات؟ لم يكن الأب هو الحامي، لكنه كان السجان الذي عزلها في غرفة زجاجية، وأوهمها أنها هدية القدر له بعدما فقد ابنته. تنهار السردية التي عاشتها ليلى سنوات، وتتجلى القبة الزجاجية كرمز للامتلاك والحب المشوه، حينما يعرف المشاهد أن الأب الحنون بعد فقد ابنته البيولوجية، لم يستطع مواجهة الفجوة العاطفية التي حدثت داخله، فارتكب جريمة اختطاف ليلى، وعندما بدأت في الاستقلال عنه، أعاد ارتكاب الجريمة باختطاف إليسيا، لتعويض ذلك الاحتياج الدائم لوجود ابنة تحت سيطرته بالكامل.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version