وبينما يطرح البيت الأبيض وصاية أميركية تمتد لعقد من الزمن على غزة، تتصاعد التساؤلات بشأن تداعيات هذه المخططات على الأمن القومي المصري، واحتمال أن تدفع المنطقة إلى مواجهة دبلوماسية أو حتى صدام سياسي مفتوح.
التصعيد الميداني واغتيال أبو عبيدة
الجيش الإسرائيلي أعلن في بيان رسمي مقتل المتحدث باسم الجناح العسكري لحركة حماس أبو عبيدة، بعد عملية مشتركة مع جهاز الشاباك استهدفت منزلاً في حي الرمال بمدينة غزة.
هذا التطور اعتُبر ضربة معنوية وإعلامية كبيرة للحركة، إذ قال الخبير العسكري والاستراتيجي محمود محيي الدين خلال حديثه إلى “التاسعة” على سكاي نيوز عربية إن استهداف أبو عبيدة كان هدفاً مركزياً للأجهزة الأمنية الإسرائيلية لقطع “الذراع الإعلامي” لحماس، الذي مثّل ضغطاً متواصلاً على الشارع والحكومة في تل أبيب عبر بث مشاهد الأسرى والوضع الإنساني.
وأكد محيي الدين أن اغتيال أبو عبيدة يندرج في سياق إستراتيجية إسرائيلية لإنهاء المعركة مع حماس في معقلها الرئيسي داخل مدينة غزة، حتى لو كان الثمن خسائر كبيرة في صفوف الجيش.
وأضاف أن ما يجري هو انتقال للمعركة نحو مرحلة نهائية: هدم أحياء كاملة وتجريد الحركة من سلطتها المركزية، مع إبقائها محصورة في الأنفاق وبعض الجيوب الصغيرة.
خطة “عربات جدعون 2” والسيطرة على غزة
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكد أن الجيش بدأ بالفعل تنفيذ قرار المجلس الوزاري الأمني المصغر بالسيطرة على مدينة غزة، والقضاء على حماس، واستعادة المحتجزين. ويأتي ذلك في إطار ما تسميه إسرائيل خطة “عربات جدعون 2″، التي تقوم على اجتياح مدينة غزة، وتفكيك ما تبقى من البنية التحتية للحركة.
لكن هذه العملية لا تُقرأ فقط في سياق عسكري، بل أيضاً كجزء من مسار سياسي أشمل يرتبط بخطط واشنطن لإدارة ما بعد الحرب، وفق ما نشرته صحيفة “واشنطن بوست”.
الوصاية الأميركية و”ريفيرا غزة”
التقرير الأميركي كشف أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تبحث خطة لوضع غزة تحت وصاية أميركية مباشرة لعشر سنوات على الأقل، بهدف إعادة تشكيل القطاع وتحويله تدريجياً إلى وجهة سياحية ومركز استثماري.
وتطرح الخطة خيار ما تسميه “التهجير الطوعي” للفلسطينيين، سواء بمغادرتهم القطاع مقابل تعويضات مالية، أو بإعادة توطينهم في مناطق محدودة داخله.
اللافت أن الخطة لا تتطرق مطلقاً إلى فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة، بل تعيد إنتاج رؤية ترامب القديمة بجعل غزة “ريفيرا الشرق الأوسط”. غير أن هذه الرؤية تثير إشكاليات قانونية وسياسية عدة، في ظل غياب أي إطار دولي شرعي لها، واحتمال أن تفتح الباب أمام نزاع طويل الأمد مع الأطراف الإقليمية.
البعد الإعلامي والنفسي للمعركة
أشار محمود محيي الدين إلى أن حماس استثمرت في البعد الإعلامي بشكل مكثف خلال الأشهر الماضية، ما جعل المجتمع الإسرائيلي يعيش تحت ضغط صور الأسرى والفيديوهات الإنسانية.
وهذا، بحسبه، دفع الحكومة الإسرائيلية إلى التركيز على إنهاء هذا الذراع الإعلامي، باعتباره يشكل خطراً داخلياً لا يقل عن التهديد العسكري.
ويرى محيي الدين أن إسرائيل تمضي قدماً في المواجهة حتى النهاية، دون أي اعتبار لأولوية وقف الحرب أو إنقاذ الرهائن، وهو ما يجعل معركة غزة مرشحة لأن تكون الأعنف والأكثر كلفة منذ سنوات.
مصر والخط الأحمر
وسط هذه التطورات، يبرز الموقف المصري باعتباره عاملاً حاسماً. القاهرة رفضت بوضوح أي خطة لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء أو إقامة معسكرات إيواء فيها، معتبرة أن ذلك يمس الأمن القومي مباشرة.
وأكدت القيادة السياسية والعسكرية المصرية أن إبقاء الفلسطينيين داخل القطاع هو شرط لا نقاش فيه.
محيي الدين شدد على أن مصر لديها تقديرات استراتيجية ثابتة في هذا الشأن، وأنها لن تسمح بفتح حدودها أمام سيناريو التهجير، مشيراً إلى أن الموقف المصري يُعد ضغطاً فعالاً على إسرائيل.
وأضاف أن الخطط الإسرائيلية والأميركية قد تجد نفسها مضطرة للتعامل مع ملف غزة مباشرة، من دون المرور بالقاهرة.
الأبعاد الاستراتيجية للوجود الأميركي
وفق تحليل محيي الدين، فإن واشنطن لا تتحرك بدافع مصلحة إسرائيل فقط، بل تنظر إلى غزة كبوابة لترسيخ نفوذها الاستراتيجي في الشرق الأوسط على المدى الطويل.
ويرى أن الحديث عن “ريفيرا غزة” أو غيره ليس سوى غطاء لمشروع أميركي أوسع يهدف إلى إبقاء موطئ قدم دائم في المنطقة.
ويذهب الخبير العسكري إلى أن إسرائيل، بحالتها السياسية الداخلية المتوترة وتنامي نزعة التطرف في أوساط أجيالها الجديدة، لم تعد قادرة وحدها على إدارة المشهد أو ضمان استقرار طويل الأمد.
لذلك، فإن الولايات المتحدة، بمؤسساتها ونخبها السياسية، تجد في وصاية غزة فرصة لإعادة صياغة التوازنات الإقليمية.
الضغوط الإقليمية والمخاطر المحتملة
من منظور أوسع، فإن دخول واشنطن بقوة في ملف غزة قد يربك المنطقة بأكملها. فبينما ترفض مصر أن تتحمل أي جزء من مشروع التهجير، تتخوف دول عربية أخرى من أن يفتح ذلك الباب أمام موجة نزوح جديدة قد تغير موازين السكان والسياسة في المنطقة.
كما أن غياب أي حديث عن دولة فلسطينية يعزز المخاوف من أن تتحول غزة إلى مجرد منطقة تجريبية لسياسات أميركية غير محسوبة.
ويحذر محيي الدين من أن الضغوط الأميركية والإسرائيلية، إذا ما استمرت على هذا النحو، قد تدفع القاهرة إلى تشديد مواقفها أكثر، وربما الدخول في مواجهة سياسية مفتوحة مع واشنطن، خصوصاً أن الجيش المصري يربط هذا الملف مباشرة بالأمن القومي والدستور.
الموقف الأميركي والمصري.. تباين لا يصطدم مباشرة
رغم وضوح التباين، يشير محيي الدين إلى أن الخلاف بين واشنطن والقاهرة لا يصل إلى حد الصدام المباشر. فالتعاون الاستراتيجي بين البلدين، بما في ذلك المناورات العسكرية المشتركة مثل “النجم الساطع” التي تشارك فيها أكثر من 30 دولة على الأراضي المصرية، يعكس أن الولايات المتحدة تدرك حدود الضغط الممكن على مصر.
غير أن الخبير يرى أن اختلاف الرؤى سيبقى قائماً، خصوصاً في ملف غزة الذي تعتبره القاهرة خطاً أحمر سيادياً.
التهجير الطوعي.. بين الوهم والواقع
فكرة “التهجير الطوعي” التي تطرحها الخطة الأميركية تبدو، وفق التحليل، محاولة لتسويق مشروع التهجير بشكل أقل صدامية. لكن عملياً، يشكك كثيرون في إمكانية تطبيقها على نطاق واسع، نظراً لارتباط الفلسطينيين بأرضهم من جهة، ورفض مصر ودول عربية أخرى أن تكون وجهة بديلة من جهة ثانية.
ومع ذلك، فإن الضغط الإنساني الهائل الناتج عن استمرار الحرب وتدمير البنية التحتية قد يدفع بعض الفئات الضعيفة إلى القبول بهذا الخيار.
بينما تمضي إسرائيل في معركتها العسكرية حتى النهاية، وتطرح واشنطن وصايتها على غزة كجزء من إعادة رسم الخريطة الإقليمية، تقف مصر بثبات رافضة أي مساس بسيادتها أو أمنها القومي عبر مشاريع التهجير.
في ضوء ذلك، يبدو المشهد مفتوحاً على احتمالات شديدة التعقيد: هل تتمكن القاهرة من منع تحوّل غزة إلى ساحة نفوذ أميركي–إسرائيلي مشترك؟ أم أن الضغوط الميدانية والإنسانية قد تفرض واقعاً جديداً يصعب على الجميع تجاوزه؟.
في كل الأحوال، يبقى الموقف المصري حجر العثرة الأساسي أمام أي مشروع للتهجير، ما يجعل الأزمة مرشحة لأن تكون اختباراً حقيقياً لمعادلات القوة في الشرق الأوسط خلال العقد المقبل.