وتكشف صور الأقمار الاصطناعية الحديثة عن توسع مريب في منشآت ديمونة الإسرائيلية، ما يضع القاهرة أمام تحدٍ استراتيجي جديد، ويفتح الباب أمام إعادة طرح ملف الترسانة النووية الإسرائيلية في لحظة مفصلية، بعد الضربات الاستباقية على المنشآت النووية الإيرانية ووساطات مصرية تهدف لخفض التصعيد.
وتشير التطورات الأخيرة إلى أن مصر تتخذ خطوات عملية نحو إعادة التوازن النووي في المنطقة، مع التركيز على ضرورة إخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، بما في ذلك الالتزام بالمعايير الدولية ومشاركة جميع دول المنطقة في معاهدة عدم الانتشار النووي، وإخضاع منشآتها للرقابة الدولية.
التوسّع النووي الإسرائيلي بين الغموض والمخاطر
تظهر صور الأقمار الاصطناعية توسعا غير معلن في منشآت ديمونة النووية، ما أعاد إلى الواجهة قضية الغموض النووي الإسرائيلي والمعايير المزدوجة التي تطبق على إسرائيل مقارنة بالدول الأخرى في المنطقة.
وبينما تواصل تل أبيب اتباع سياستها التقليدية القائمة على عدم الإفصاح ورفض الرقابة الدولية، يبرز السؤال حول مدى جدية إسرائيل في المشاركة الفعلية في خفض التوتر الإقليمي، في وقت تؤكد فيه واشنطن على شلل البرنامج النووي الإيراني.
وتكشف التقارير عن تضارب حول نية إسرائيل، بين بناء مفاعل ماء ثقيل جديد أو تطوير المنشأة القائمة لتجميع الأسلحة النووية، ما يثير مخاوف دولية من سباق نووي جديد في الشرق الأوسط.
ويضع الغموض الإسرائيلي المستمر مصر والدول العربية أمام خيارين: انتظار خطوات إسرائيلية فعلية أو التحرك استباقيا لضمان أمن المنطقة.
مصر كوسيط إقليمي ناجح
في هذا السياق، يبرز الدور المصري البارز كوسيط بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
فقد نجحت القاهرة خلال الفترة الأخيرة في التوصل إلى اتفاق تقني جديد بين الجانبين، يشكل قاعدة للتعاون المشترك ويفتح الطريق أمام استئناف المفاوضات المتوقفة مع القوى الغربية.
الخبير العسكري والاستراتيجي محمود محي الدين أكد خلال حديثه لبرنامج “التاسعة” على “سكاي نيوز عربية”، أن التوقيت الحالي يمثل مرحلة حاسمة في تاريخ المنطقة، حيث أصبحت مصر لاعبا محوريا في الوساطة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعد أن أثبتت قدرتها على إدارة حوار نووي متوازن.
وأشار محي الدين إلى أن إيران تؤكد على حقها في التخصيب لأغراض سلمية، بينما يسعى المجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، لمنع إيران من امتلاك قدرات نووية عسكرية، في ظل استمرار رفض إيران فتح كافة منشآتها للتفتيش الكامل، ما يثير شكوكا حول توجهها نحو السلاح النووي.
الضبعة: محطة للتخصيب النووي الإقليمي
برزت خلال المفاوضات الأخيرة فكرة إنشاء قاعدة للتخصيب الإقليمي بهدف تغذية المحطات النووية السلمية، على أن تكون مصر، وبالأخص منطقة الضبعة، مقر هذه المحطة.
ووفق محي الدين فإن مصر باتت دولة رائدة في إنشاء محطات نووية كبيرة بالتعاون مع روسيا وعدة دول أوروبية مثل كوريا وألمانيا، ما يضعها في موقع مؤثر بالتوازن النووي الإقليمي.
التهديدات الإسرائيلية والرد الإقليمي
حذر الخبير المصري من استمرار التفرد الإسرائيلي بالأسلحة النووية، خاصة بعد التوسع في قدراته الصاروخية وتجارب الغواصات المجهزة لإطلاق صواريخ كروز نووية.
وأوضح أن إسرائيل أصبحت لاعبا دوليا، ما يزيد من المخاطر على أي دولة في المنطقة، وأن الولايات المتحدة توفر لإسرائيل غطاءً نوويا ضمن تحالفها الاستراتيجي، ما يحول دون محاسبتها على سياساتها.
وشدد محي الدين على أن استمرار إسرائيل في هذه السياسات قد يبرر طموح بعض الدول العربية في امتلاك قدرات نووية للردع، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على عواصم عربية وخرقها للحدود الجغرافية للدول المجاورة.
إسرائيل: دولة وظيفية تحت الرؤية الأميركية
أكد محي الدين أن إسرائيل لم تعد تملك قرارها الاستراتيجي بشكل مستقل، بل أصبحت دولة “وظيفية” تتصرف ضمن رؤية الإدارة الأميركية، خصوصا فيما يتعلق بالشرق الأوسط.
وبيّن أن سياسات تل أبيب الحالية، بما فيها الهجوم على غزة، تأتي في إطار أهداف أميركية أوسع، مثل تأسيس قاعدة موسعة في شرق البحر المتوسط، وتقليص أي استقلالية إقليمية لإسرائيل.
وأضاف أن أي تفاهمات أو مقترحات أميركية مستقبلية مع العالم العربي قد تؤدي إلى تخفيض الترسانة النووية الإسرائيلية، أو نقل أسلحتها إلى المظلة الأميركية، بما يحقق أهداف نزع السلاح النووي في المنطقة.
السياق التاريخي: مبادرة الأمم المتحدة لإخلاء الشرق الأوسط من النووي
لفت محي الدين إلى تجربة عام 1974 بعد حرب أكتوبر 1973، عندما أطلقت الأمم المتحدة مبادرة لإخلاء الشرق الأوسط من السلاح النووي بدعم عربي موحد، خاصة من مصر وسوريا والدول الأخرى التي كانت تسعى لبناء محطات نووية سلمية.
وحسبما ذكر محي الدين فإن الضغوط الأميركية حينها أعاقت تطبيق مبادرات التخصيب النووي، وأن التجربة تشير إلى أن الاستمرار في الضغط العربي والدولي على إسرائيل يمكن أن يؤدي لتحقيق أهداف نزع السلاح النووي.
المخاطر الإيرانية والإسرائيلية
يحظى البرنامج النووي الإيراني بمخاوف دولية مشابهة لمخاوف مصر ودول المنطقة من إسرائيل، خاصة مع توسع تل أبيب في بناء صواريخ نووية وغواصات متطورة، واستخدام التكنولوجيا الحديثة والتعاون مع دول أوروبية لإجراء التجارب النووية تحت إشراف أنظمة متقدمة، وفقما ذكر محي الدين.
وتابع قائلا إن استمرار الضربات الأميركية على المنشآت الإيرانية، دون التوصل لاتفاق واضح مع إيران، يجعل إسرائيل اللاعب النووي الوحيد في المنطقة، وهو وضع غير مقبول، ويهدد استقرار الشرق الأوسط بأسره.
الجهود الدبلوماسية المصرية
تعمل القاهرة على تحريك ملف نزع السلاح النووي ضمن المجتمع الدولي، خاصة مع الاتحاد الأوروبي، الذي تربط مصر به علاقات استراتيجية قوية.
ومن المقرر طرح هذا الملف في قمة أوروبية قريبة، بالتزامن مع دعم الدول العربية لاتفاقية حظر الانتشار النووي، والرغبة الجماعية في إخلاء الشرق الأوسط من أي أسلحة نووية، سواء من إيران أو إسرائيل، أو من أي دولة أخرى في المنطقة.
وفي هذا السياق، أكد محي الدين أن مراقبة توسع المحطات النووية السلمية، والتحكم في التمدد الاستراتيجي الإسرائيلي، يعدان عنصرين حاسمين لضمان الأمن الإقليمي، لا سيما مع استمرار النشاط الغامض للغواصات الإسرائيلية في البحر الأحمر، والتعاون النووي الإسرائيلي مع بعض الدول الأوروبية.
شرق أوسط خالٍ من النووي تحت مظلة أميركية
خلاصة التحليل تشير إلى أن مصر تسعى بخطوات مدروسة إلى تحقيق توازن نووي إقليمي، عبر الضغط على إسرائيل لضبط أسلحتها النووية، وخلق إطار إقليمي متكامل للتعاون النووي السلمي، بمشاركة إيران والدول العربية، مع ضمان إشراف دولي فعال.
ويبدو أن الحل الأمثل وفق الرؤية المصرية هو وضع إسرائيل تحت مظلة نووية أميركية، مع مواصلة جهود الوساطة لإيجاد صيغة متوازنة لمراقبة وتقييد قدرات إيران النووية، بما يحقق هدفا بعيد المدى: شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية، قادر على استقرار سياسي وأمني مستدام.