الأربعاء 18 جمادى الأولى 1446هـ

تجاوزت الضربة العسكرية الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق القواعد القصوى لـ”حرب الظلال” القائمة بين طهران وتل أبيب، حيث أسقطت إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو كل الاعتبارات السابقة، مما أدخل المنطقة مرحلة جديدة تعيش فيها على وقع رد إيراني منتظر تكثر التكهنات بشأن مكانه وزمانه وطبيعته.

وتشير المعطيات والتحليلات وردود الأفعال إلى أنه يصعب على إيران “ابتلاع وهضم” الضربة الإسرائيلية القوية التي أدت إلى مقتل قائد “قوة القدس” في سوريا ولبنان اللواء محمد رضا زاهدي ونائبه العميد محمد هادي حاجي رحيمي، بالإضافة إلى 5 عسكريين آخرين.

ورفعت الضربة على القنصلية في دمشق والتهديدات الإيرانية منسوب التوتر والخوف في إسرائيل التي تتابع بانتباه وقلق شديدين تصريحات إيران وتحركات قيادتها، والرد المرتقب الذي وعد به المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، مهددا إسرائيل بالعبرية “ستندمين”.

نتنياهو وجبهات الخوف

ويبدو انشغال الإسرائيليين من خلال تحليل صورة قادمة من طهران تظهر قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني أمير علي حاجي زاده يستمع إلى قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي بتركيز كبير خلال تشييع القادة الذين قتلوا في القصف إسرائيلي على القنصلية الإيرانية.

فقد حاولت مدونة “إنتل تايمز” الاستخباراتية قراءة النظرة الحادة في عيني زاده وسلامي يهمس في أذنه مباشرة، معلقة عليها “هذه اللحظة التي يتلقى فيها الأمر بالرد”.

أمير علي حاجي زاده يستمع إلى حسين سلامي خلال تشييع قادة الحرس الثوري في إيران (مواقع التواصل)

تأثرت الولايات المتحدة بهذا القلق الذي صنعه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أيضا، حيث نقلت شبكة “سي إن إن” عن مسؤول أميركي كبير أن واشنطن في حالة “تأهب قصوى” وتستعد لهجوم إيراني يمكن أن يحدث خلال الأسبوع المقبل على المصالح الإسرائيلية أو الأميركية في المنطقة.

نتنياهو انتهج مسارا غير محسوب العواقب بتوجيه ضربة إلى إيران، في وقت سعت فيه الولايات المتحدة منذ اليوم الأول للعدوان على غزة إلى عدم توسيع دائرة الحرب في الشرق الأوسط.

فقد قرر نتنياهو في يوم واحد أن يفتح 3 جبهات جديدة تضاف إلى قائمة جبهاته المعقدة بتمرير قانون يسمح بإغلاق وسائل الإعلام الأجنبية وسماه “قانون الجزيرة”، واستهداف 7 من عمال الإغاثة في غزة بضربة صاروخية على سيارتهم التي تحمل علامات واضحة لمنظمة دولية.

وقد عرّضه ذلك لانتقادات شديدة و”توبيخ علني” عبر مكالمة هاتفية من الرئيس الأميركي جو بايدن وصفتها وسائل إعلام إسرائيل بـ”المتوترة”، وحملت دعوة مباشرة إلى عقد صفقة مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) “دون تأخير”.

وعلق المحلل العسكري الإسرائيلي يوسي ميلمان على تلك المكالمة بأن الرئيس الأميركي يطلب من حكومة نتنياهو بلغة لبقة “توقفوا عن الحرب وإلا ستبقون وحدكم، قريبا سيترككم الغرب ولن يزودكم بالسلاح، فستضطرون لمواجهة 6 جبهات في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن وحتى إيران”.

ويأتي تجاوز نتنياهو الخطير لحدود “قواعد الاشتباك” مع إيران في وقت يواجه منذ أكثر من عام معارضة شديدة من الشارع الإسرائيلي المناهض لحكومته اليمينية المتطرفة، والمطالب حاليا بصفقة لتحرير الأسرى من قبضة المقاومة الفلسطينية.

ومع زيادة الانقسام السياسي ومنسوب التوتر المجتمعي في إسرائيل يجد نتنياهو نفسه متخبطا في التعامل مع تداعيات فشله العسكري المستمر في غزة ومطاردة الأهداف التي وضعها منذ بدء الحرب، بالإضافة إلى التعامل مع الاستنزاف اليومي في جبهة الشمال مع لبنان.

كما تتصاعد الضغوط الدولية -خاصة الأميركية- على حكومته وجيشه، بما في ذلك مطالبات مجلس الأمن بإنهاء حربه على غزة، وتوجيه محكمة العدل الدولية اتهامات خطيرة إلى الجيش الإسرائيلي بارتكاب أعمال إبادة جماعية في غزة.

وتبعا لذلك لا يبدو المجتمع الإسرائيلي وجيشه حاضرا لجبهة أخرى قد تكون أكثر شراسة ولا لحجم القلق والتوتر الناجمين عن المزاج الشعبي الإيراني الذي يطالب قيادته بالانتقام “برد قاس” على ضربة القنصلية، لكن كل ذلك يرتبط بطبيعة الرد الإيراني وحجمه، وهل سيكون مباشرا أم عن طريق “الأذرع” وفق التصور الإسرائيلي؟

ويبدو الخوف والترقب على أشده في إسرائيل، وتحدث موقع “والا” عن تهافت السكان على المتاجر في جميع أنحاء إسرائيل لتخزين مواد أساسية تحسبا للهجوم الإيراني.

ويشبّه الكاتب الإسرائيلي جدعون ألون الحالة التي تعيشها تل أبيب مع التهديدات الإيرانية برد محتمل على اغتيال قادة الحرس الثوري بـ”التوتر والذعر اللذين سادا في إسرائيل خلال انتظار حرب الأيام الستة في عام 1967، أتذكر تلك الأيام كما لو كانت أمس”.

الضربة التي يصعب ابتلاعها

لم تكن هذه أول ضربة إسرائيلية توجه لإيران خلال السنوات الماضية ومنذ “طوفان الأقصى”، فقد اعتادت طهران الرد على تصفية علمائها واغتيال شخصيات رفيعة مرتبطة ببرنامجها النووي، ببعض الردود العسكرية وفق خطوات محسوبة وقواعد اشتباك مرسومة بدت حسب المزاج الشعبي دون المستوى المطلوب، فيما كان يفترض أن يكون الرد متناسبا مع الضربة الإسرائيلية ويتوافق مع وضع إيران وتهديداتها المتواصلة لإسرائيل.

وبحسب تصريحات المسؤولين الإيرانيين على المستويات السياسية والعسكرية والأمنية، فإن الرد الإيراني سيأتي و”العدو سيتلقى عقابه على أيدي رجالنا”، وفق ما قال المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، لكن طبيعة الرد لا تبدو واضحة بحكم الجبهات المتعددة في المنطقة وسوابق التاريخ، وفي كل الحالات تجد إيران نفسها أمام خيارين:

  • الحفاظ على قواعد الاشتباك التي تتبعها والاكتفاء بردود تكتيكية في جبهات أخرى وعن طريق أذرع “محور المقاومة”، مما يمنع الانزلاق إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، أي أن تواصل إيران العمل وفق “إستراتيجية النفس الطويل”.

ويرى محللون أن إسرائيل وعبر استهدافها المتكرر لإيران، خصوصا مع الوضع المعقد في المنطقة تسعى إلى خلط الأوراق وتوريط إيران في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، وهو ما تسعى إيران لتفاديه، لكن حجم الضربة قد يستوجب المرور إلى الخيار الذي لا بد منه.

  • كسر تلك القواعد والانتقال لمرحلة جديدة عبر الرد الإيراني المباشر على إسرائيل، وهو في الأساس قد تعتبره واشنطن تعديا على حليفتها تل أبيب، خاصة أن طهران حملت الولايات المتحدة المسؤولية المباشرة على استهداف بعثتها الدبلوماسية في دمشق.

وجاء تصريح رئيس أركان الجيش الإيراني محمد باقري بقوله إن الولايات المتحدة الأميركية هي المسؤولة الرئيسية في الهجوم، مؤكدا أن “الهجمات الإسرائيلية لن تبقى دون رد”، كما اعتبر الحادثة “خطوة تسرّع نهاية إسرائيل”.

وفي هذا السياق، يقول الباحث في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي داني سيتيرونوفيتش “إننا أمام حدث مهم غير مسبوق تقريبا في المعركة ضد إيران، قد تضطر إلى التفكير في رد من خارج الصندوق”.

كما يقول الكاتب راز تسيمت في صحيفة “يديعوت أحرونوت”: إن ضربة القنصلية في دمشق “يمكن أن يكون القشة التي تقصم ظهر البعير، ويدفع إيران إلى تغيير ميزان حساباتها الخاصة، سيكون من الصعب على القيادة الإيرانية الاستمرار في سياسة الاحتواء، حتى لو كان الثمن المخاطرة بتصعيد إضافي، إما عبر الأذرع، وضمنها حزب الله، أو بصورة مباشرة”.

من جهتها، أكدت صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير لها أن “الهجوم الإسرائيلي كان ضربة قوية جعلت إيران عازمة على الرد”.

ونقلت عن اثنين من المسؤولين الإيرانيين -طلبا عدم الكشف عن هويتهما- أن إيران وضعت جميع قواتها المسلحة في حالة تأهب كامل، وقررت الرد مباشرة على هجوم القنصلية بدمشق. كما نقلت أيضا عن محللين أميركيين أن “إيران ستضرب بنفسها إسرائيل بدلا من وكلائها”.

أما صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية فرجحت أن إيران سوف ترد بشكل مباشر على إسرائيل باستخدام الصواريخ والطائرات المسيرة ضد مواقع حيوية في العمق الإسرائيلي.

ويرى محللون أن الضربة الإيرانية المباشرة قد تكون موجهة ومحسوبة، بما لا يطلق حربا شاملة في المنطقة -لا تريدها الولايات المتحدة- أسوة بالرد على اغتيال قائد الحرس الثوري قاسم سليماني ببغداد في يناير/كانون الثاني 2020 حين استهدفت طهران قاعدة أميركية في العراق.

ويذهب محللون آخرون إلى أن إيران قد تستهدف مصالح إسرائيلية أو سفنا أو مقرات أو يتم توجيه ضربات متزامنة وقوية من العراق ولبنان واليمن.

من جهته، رأى وزير الدفاع الأميركي السابق مارك إسبر أن إيران “ستتخذ إجراءات ضد إسرائيل للحفاظ على كرامتها لكن على نطاق محدود، لتجنب حرب واسعة في الشرق الأوسط”.

إسرائيل تستعد

وتحسبا لرد إيراني، أخلت تل أبيب عددا من سفاراتها حول العالم، وكشفت صحيفة “جيروزاليم بوست” عن إغلاق 28 سفارة وقنصلية في الخارج، كما أعرب دبلوماسيون يعملون في الخارج عن قلقهم من أن سفاراتهم ستكون هدفا للانتقام.

كما نقلت شبكة “سي إن إن” الأميركية عن مسؤول كبير أن الولايات المتحدة في حالة “تأهب قصوى” وتستعد لهجوم إيراني يمكن أن يحدث خلال الأسبوع المقبل على المصالح الإسرائيلية أو الأميركية في المنطقة.

من جهته، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أن المنظومة الدفاعية أنهت استعداداتها للرد على “أي سيناريو يتطور ضد إيران”.

وأفاد مسؤولون إسرائيليون لموقع “أكسيوس” الأميركي بأن إسرائيل أبلغت الولايات المتحدة أنه في حال شنت إيران هجوما من أراضيها ضد إسرائيل انتقاما للضربة “القاتلة” التي وقعت في سوريا، فإن تل أبيب ستقوم برد قوي يأخذ المرحلة الحالية إلى مستوى آخر.

وبناء على تقييمه الوضع أعلن الجيش الإسرائيلي أنه “تقرر تعليق مغادرة جنود الوحدات القتالية لثكناتهم العسكرية مؤقتا”، إضافة إلى إعلانه “تعزيز وتجنيد جنود احتياط في أنظمة الدفاع الجوي”.

كما شرعت إسرائيل في تشويش نظام تحديد المواقع “جي بي إس” في تطبيق “ويز” لإرشاد السائقين على الطرقات، خشية التعرض لقصف بمسيّرات وصواريخ ذكية موجهة، ونتيجة لذلك لاحظ مشغلو البرمجية في وسط البلاد وكأنهم في العاصمة اللبنانية بيروت، وفق هيئة البث الإسرائيلية.

ومن خلال تصريحات القادة العسكريين تبدو إسرائيل مستعدة لأسوأ السيناريوهات، بما في ذلك حرب محدودة وهجمات متبادلة مع إيران أو حرب إقليمية واسعة تشارك فيها جبهات عدة ضدها.

لكن حساب القوة العسكرية لإيران وواقع الفشل العسكري الذي تواجهه تل أبيب في غزة وفي شمال لبنان وتفكك الجبهة الداخلية والمأزق الاقتصادي عوامل لا تضمن تحمّل نتائج هذه الحرب دون إسناد أميركي، لم يعد مضمونا بعد التوتر الأخير بين بايدن ونتنياهو، وحرص واشنطن على تهدئة الأوضاع.

وفي المقابل، تبدو إيران محكومة بخيار الرد مدفوعة بحجم الضربة التي تلقتها وبقوة الأوراق التي تملكها في المنطقة، لكن حسابات الرد تبقى قيد الدرس، فيما يحبس العالم أنفاسه تحسبا من مواجهة لن تكون كسابقاتها.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version