الأربعاء 18 جمادى الأولى 1446هـ

أفرز الصراع الطويل في الشمال السوري، أنماطاً متقلبة من الحوكمة والتحولات المعقدة. تتأثر هذه الأنماط استجابة للتغيّر في خرائط السيطرة، وذلك وفق عوامل منها: العمليات العسكرية، والحالة الأمنية غير المستقرة، والعوامل الثقافية للسكان، وطبيعة العلاقة بين الفاعلين المدنيين والعسكريين، ومصادر التمويل، والتدخل الخارجي، وتراكمات التاريخ الأخير منذ بدء خروج المناطق عن سيطرة النظام السوري.

بيد أن الاستقرار النسبي في الشمال السوري، منذ المعركة الأخيرة وتدخّل تركيا عسكرياً بداية عام 2020، نتج عنه استتباب السيطرة لكتلتين عسكريتين. وبناء على ذلك، قُسّم شمال غربي سوريا إلى منطقتين، تتمايزان بنمط الحكم والسيرورة والأداء والمستند الشرعي، وهما: منطقة سيطرة “هيئة تحرير الشام” في إدلب وبعض الأرياف المحيطة بها من حلب واللاذقية. و منطقة سيطرة “الجيش الوطني” في ريفي حلب الشمالي والشرقي، وهما منطقتان يقطنهما 6 ملايين نسمة، نصفهم من النازحين والمهجرين.

فراغٌ بحاجة إلى ملء

لفهم المشهد، لا بد من العودة بالزمن إلى منتصف عام 2012، عندما بدأت المناطق بالخروج عن سيطرة النظام السوري، إذ تطلب الواقع الجديد من الفاعلين المدنيين، الذين كانوا حينها معروفين باسم “التنسيقيات” والعسكريين المتمثلين بـ “الجيش السوري الحر” وبعض الكتائب الصغيرة ذات التوجه السلفي الجهادي؛ ملء الفراغ الناتج عن توقف مؤسسات النظام الحكومية. أدى هذا إلى تشكّل ما بات يعرف بـ “المجالس المحلية”، بينما اختلفت آليات التشكيل واعتباراتها من مكان إلى آخر، وهو ما يرتبط بالتمثيل العائلي أو العشائري والكوادر ومساحة تدخل العسكر ومصادر تمويل المشاريع.

طرأت تطورات على آليات تشكيل وعمل المجالس المحلية، التي أخذت تمارس وظائف الدولة، وغلب عليها الطابع الخدمي ضمن الحيز الإداري. وفي عام 2013، خضعت الهيكلية والتبعية لـ “الحكومة السورية المؤقتة”، التي شُكّلت بتكليف من “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، وبذلك بات الائتلاف هو السلطة التشريعية والحكومة المؤقتة هي السلطة التنفيذية.

نجحت بعض المدن والبلدات في حلب وإدلب، بإجراء انتخابات عامة لأعضاء المجلس المحلي، ومن ثم انتخاب الأعضاء لرئيس المجلس. ومع أن الفكرة لاقت استحسان المكونات الثورية والأهالي، إلا أنه لم يجرِ تعميمها، وبقيت الغالبية العظمى من المجالس المحلية تخضع للتوازنات والتوافقات وتدخل الفصائل العسكرية. وفي حالة وسط، كان تُحصر خيارات الناخبين في الوجهاء والأكاديميين والناشطين والتجار، فلا تكون انتخابات عامة.

وشهدت المجالس المحلية في الشمال السوري تطوراً في الأداء، وتحديداً مع تشكيل المنظمات التنموية والإغاثية والإنسانية وبدء التمويل الأجنبي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية، فخضع أعضاء المجالس المحلية لدورات تدريبية وتأهيلية، ولعبت المجالس دور المسيّر والمشرف على المشاريع التنموية والإغاثية والخدمية التي تنفذها المنظمات.

لاحقاً، تدفق التمويل الأجنبي للمجالس المحلية لتنفيذ مشاريع البلديات، مع تفاوت في كمية التمويل لكل مجلس، وذلك بناء على العلاقات الشخصية التي تربط رئيس المجلس بمدراء المنظمات، وتقييم الداعمين لرئيس المجلس وكوادر المجلس وأدائهم وخبراتهم، وما إذا كانت المنطقة ضمن نطاق اهتمام الجهة الداعمة أم لا، إضافة إلى تصنيف الفصيل العسكري المسيطر ومدى تدخله بالعمل المدني.

وقد انعكس دخول التمويل الأجنبي بشكل كبير على معيشة الأهالي، فتحولت الكثير من مشاريع المياه والإصحاح والكهرباء والشوارع إلى مشاريع مستدامة، بعد أن بدأت المجالس المحلية بجباية جزء من التكلفة أو المصاريف التشغيلية للمشاريع من السكّان .

أما من ناحية السيطرة العسكرية والأمنية، فكانت الفصائل العسكرية بداية خروج المناطق عن سيطرة النظام السوري، تنأى بنفسها عن التدخل في العمل المدني، وتنشغل في معارك الهجوم والدفاع، بينما أفرزت الفصائل العسكرية خلال الفترة بين 2012 – 2016 كيانات أمنية متمثلة بالشرطة والأمن. ثم خضعت ما كانت تسمى بـ “الشرطة الحرة” لوزارة الداخلية في الحكومة المؤقتة، وتلقت دعماً لوجستياً من “دول أصدقاء الشعب السوري” للاضطلاع بمهامها وتحقيق أكبر نسبة ممكنة من الأمان، مع بقاء الكيانات الأمنية التي تتبع للفصائل العسكرية الكبرى، تلعب دور المخابرات العسكرية.

في المقابل، لم تطرأ تحولات كبيرة على السلطة القضائية خلال الفترة الواقعة بين 2012 – 2016، إذ كان النمط السائد وجود محاكم أو هيئات شرعية غير مستقلة، تتبع للفصائل العسكرية الكبرى، مكونة من مشايخ وشرعيي الفصائل، تفصل في الخلافات وتعقد الأحوال المدنية وتدير بعض السجون. بينما أُسّست محاكم خاصة للخلافات الكبرى من مجموعة من الشرعيين. إضافة لمبادرات نتج عنها تشكيل منظومات قضائية حقيقية تعمل بالقانون العربي الموحد، ثم القانون العربي السوري، بمرجعية دستور عام 1950، توجد في مناطق محددة تخضع لسيطرة فصائل من الجيش الحر.

خريطة السيطرة في شمال غربي سوريا

كانت للعمليات العسكرية والقصف المستمر لقوات النظام والقوات الإيرانية والروسية، التأثير الأكبر على سير عملية الحوكمة. ووصلت معارك التحرير من ريفي حلب الغربي والجنوبي إلى مشارف المدينة، دون دخولها من هاتين الجهتين. ويتصل ريفا حلب الغربي والجنوبي مع أرياف إدلب، التي باتت أيضاً تحت سيطرة الفصائل العسكرية.

لقد كانت منطقة كفر حمرة المتاخمة للزاوية الشمالية الغربية لمدينة حلب، نقطة الوصل بين القسم الشرقي من مدينة حلب الخاضع لسيطرة الفصائل، وريفيها الغربي والشمالي؛ وهو ممر ضيق لوجود قريتي نبل والزهراء الشيعيتين المحاصرتين من الجهات الشرقية والشمالية والجنوبية، ما عدا الجهة الغربية المفتوحة على مناطق سيطرة “وحدات حماية الشعب” في منطقة عفرين.

لاحقاً في عام 2016، سيكون ممر كفر حمرة نقطة تحول كبيرة، عندما تصل قوات النظام إلى مشارفه في معركة حصار حلب، بينما تتقدم “قوات نبل والزهراء” و”وحدات الحماية” لتفصل بين ريفي حلب الشمالي والغربي. ثمّ، ومع نهاية العام، وقع تهجير حلب.

أما محافظة إدلب، فتوسعت سيطرة الفصائل فيها بشكل سريع، حيث سيطرت على المحافظة باستثناء بلدتي كفريا والفوعة الشيعيتين المحاصرتين، وعلى الشريط الذي كان يمتد من مدينة إدلب إلى مدينة جسر الشغور ومن ثم جبال اللاذقية، مروراً بمدينة أريحا، ثم استكملت الفصائل سيطرتها على كامل المحافظة بعد تشكيل “جيش الفتح”.

وفيما يخصّ تركيا، فيرتبط الشمال السوري معها بأربعة معابر حدودية برية، هي: باب الهوى، وباب السلامة، والراعي، وجرابلس، بينما استحدثت تركيا مع بداية عام 2020 معبر الحمام في جنديرس. وهذه المعابر هي ممر المساعدات الإنسانية والبضائع التجارية، ومنها أيضاً يدخل إلى تركيا التجار المسجّلون والعاملون في المنظمات والمجالس المحلية والفصائل العسكرية فقط، بناء على قوائم محدّدة سلفاً.

مناطق سيطرة الجيش الوطني

درع الفرات.. نقطة التحول

سارع الجيش التركي بالتدخل العسكري في ريف حلب الشمالي في أغسطس/آب 2016، بعدما عبرت وحدات حماية الشعب الكردية إلى الضفة الغربية لنهر الفرات، وسيطرت على مدينة منبج ضمن معاركها مع التحالف الدولي للقضاء على “تنظيم الدولة”. بهذا، دخلت أول أرتال الجيش التركي من مدينة جرابلس على الضفة الغربية من نهر الفرات، لمنع ربط الكانتونين الكرديين في عين العرب (كوباني) وعفرين، ولطرد تنظيم الدولة الذي كان يسيطر على كامل ريفي حلب الشرقي والشمالي باستثناء مدينتي أعزاز ومارع وبعض القرى المحيطة بها.

انتهت عملية “درع الفرات” في مارس/ آذار 2017 بطرد تنظيم الدولة من مدينة الباب، بينما أسس الجيش التركي قواعد عسكرية في مناطق متفرقة.

وفي هذا السياق، دعمت تركيا الفصائل وزودتهم بالسلاح الخفيف والمتوسط والآليات، وظهرت فصائل عسكرية جديدة بمسميات جديدة، يقودها أشخاص كانوا ضمن الفصائل التقليدية الأساسية في الصفين الثاني والثالث، وربما أقل. وفي آخر يوم من عام 2017، أعلنت وزارة الدفاع في “الحكومة السورية المؤقتة” عن تشكيل “الجيش الوطني السوري”، باتحاد 30 فصيلاً عسكرياً ضمن 3 فيالق.

استكملت تركيا مع الفصائل الجديدة وعدد من الفصائل التقليدية، المعارك، فأطلقت عملية “غصن الزيتون” في 20 يناير/ كانون الثاني عام 2018، لطرد “وحدات الشعب الكردية” من منطقة عفرين، وقد حققت المعركة التي امتدت إلى شهرين وبضعة أيام، أهدافها. وربّما تكمن أهميتها الكبيرة، في وصل ريف حلب الشمالي بالريف الغربي المتصل مع إدلب، وذلك بعد عامين من الانقطاع الجغرافي.

تغير الأولويات والتدخل التركي في الإدارة

شيئاً فشيئاً، وتحديداً بعد عملية درع الفرات، أخذت الفصائل العسكرية المستحدثة بالنمو، فيما بدأت معالم التحكّم بها من قبل الأتراك بالظهور، كالتحكم بالتمويل بالمال والسلاح والذخيرة وبثقل وتوزيع الفصيل الجغرافي وعدد عناصره. هذا وراتب العنصر الواحد لم يكن يتجاوز الألف ليرة تركية (نحو 31 دولار)، ولاحقاً في فبراير/ شباط عام 2024 ارتفع إلى ألفي ليرة تركية (نحو 62 دولار).

كما أبقت تركيا على غطاء الجيش الوطني ووزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة، رغم عدم وجود أي قرار وفعل حقيقي للوزارة والحكومة.

ومع سيطرة الجيشين الوطني السوري والتركي على المنطقة، وتعرض الأخيرة لهجمات دورية من “تنظيم الدولة الإسلامية” و”قوات سوريا الديمقراطية – قسد”، وتبلور مشروع وجود تركي طويل الأمد لغايات الأمن القومي وغايات سياسية تتعلق بالملف السوري، تبدلت أولويات المنطقة من الأولوية الخدمية إلى الأولوية الأمنية، فأعادت تركيا والفصائل العسكرية تشكيل “المجالس المحلية”.

فدرالية بثلاثة مراكز تركية

أحكم الجانب التركي سيطرته على إدارة مناطق الجيش الوطني، وأوكلت مهمة تنظيم وإدارة المنطقة إلى الولاة الأتراك وجهاز المخابرات التركية، في حين بقيت مهمة الجيش التركي محصورة بالدفاع عن المنطقة عسكرياً. وعلى أساس ذلك، قُسمت مناطق الجيش الوطني إداريا لثلاث مناطق، تتبع كل واحدة منها لولاية تركية، وهي ولايات: هاتاي، وكلس، وغازي عنتاب، ولكل والٍ تركي مبعوث للطرف السوري يعرف باسم “المنسّق”.

بدأت عملية إعادة تشكيل المجالس المحلية باعتبارها السلطة المدنية في العام 2017، وانتهت إعادة التشكيل في العام 2018. تبدأ العملية بتقديم العائلات والفصائل والأعيان قوائم المرشحين، وهنا تكون الكلمة العليا للفصائل العسكرية، ثم تخضع القائمة الأولى للتوافق والمحاصصة على حساب الكفاءة لتقليص العدد (لكل مدينة و بلدة عدد محدد من الأعضاء بحسب عدد السكان). بعدها تُقدم قائمة أعضاء المجلس وأسماء المتوافق عليهم لرئاسته، إلى الجانب التركي لدراستها أمنياً وتقديم مقترحاته أو طلب تغييرات في القائمة قبل منح الموافقة النهائية. وفي بعض المناطق المختلطة عرقياً، مثل مناطق الوجود الكردي أو التركماني، يُراعى هذا التنوّع في الترشيحات والعضويات.

يتفاوت سوء هذه العملية من مدينة إلى أخرى، فعلى سبيل المثال شهدت مدينة الباب، وهي أكبر الحواضر في مناطق الجيش الوطني، خلافات ومظاهرات واقتتال، ويزيد من تعقيدات الحالة، أن نصف سكان الباب تقريباً من المهجرين من خمسة مناطق سورية، بالإضافة إلى عدم وجود فصيل واحد يتفرد بالسيطرة فيها. في المقابل، يمكن تصنيف مجلس مارع واعزاز بالحالات الأكثر نجاحاً وكفاءه، بحكم وجود فصيل واحد مسيطر عليها منذ بداية الحراك المسلح، وبحكم العلاقة الجيدة نسبياً بين العسكر والمدنيين.

أما عن توزع الفصائل العسكرية التابعة للجيش الوطني، ففي منطقة أعزاز يعتبر الدور الفاعل لفصيلي “لواء عاصفة الشمال” و”الجبهة الشامية”، وفي منطقة الراعي لـ “فرقة السلطان مراد”، وفي جرابلس لـ “الفرقة التاسعة” و”أحرار الشرقية”، وفي الباب وبزاعة وقباسين لفرقتي “الحمزة” و”السلطان مراد”، وفي مارع لـ “فرقة المعتصم” و”الجبهة الشامية”، بينما في منطقة عفرين يكون تدخل الفصائل أقل مقارنة بالدور التركي البارز في إدارة المنطقة.

تكمن المشكلة الكبرى في هذه الآلية المتبعة، بأن المحاصصة تكون على حساب الكفاءة، إذ ثمّة أعضاء مجالس محلية لا يحملون شهادة علميّة أكثر من الصف التاسع أو الثانوية العامة. هذا إضافة إلى أن الموافقة النهائية عند الجانب التركي، تخلق حالة من التملق على حساب الأداء، وتشكل دورة فساد لضمان الاعتماد الدائم.

وبناء على ما سبق، يمكن القول إن صوت الشعب غائب تماماً في تشكيل المجالس المحلية، لعدم وجود انتخابات عامة، رغم إمكانية تنفيذها، أو على الأقل عدم وجود هيئة انتخابية واسعة تمثل جميع السكان.

خلقت هذه الحالة الإدارية سخطاً على المستوى الشعبي وعلى مستوى الكفاءات، التي إما غادرت المنطقة أو التحقت بالمنظمات.

لقد توسعت صلاحيات المجالس المحلية لتصبح الحاكم المدني للمدينة، ولتشبه بذلك صلاحيات ومهام الولاية في تركيا، فلم يعد يقتصر عملها على المهام الخدمية أو أعمال البلدية، ولكنها أنشأت مكاتب إدارية، مثل المكتب الخدمي والمكتب التعليمي والمكتب الطبي وغيرها. كما بدأت معظم المجالس المحلية بالابتعاد عن الحكومة المؤقتة، وأخذت تصدر قرارات دون مرجعية منها، ولذلك تختلف القوانين والقرارات من مدينة لأخرى. ويرجع هذا الاختلاف الملاحظ، إلى أن المنطقة مقسمة بالتبعية الإدارية والحوكمية إلى ثلاث ولايات تركية.

كانت آخر نتائج هذه الحالة من الإدارة، والتي أثارت جدلاً واسعاً، إعلان مجلس جرابلس المحلي (بالتعاون مع ولاية غازي عنتاب) نهاية عام 2023 عن فتح معبر جرابلس الحدودي أمام اللاجئين السوريين في تركيا، لزيارة الشمال السوري لمدة شهر مقابل 200 دولار أميركي للشخص الواحد. وبعد استنكار من الناشطين والائتلاف والحكومة المؤقتة، عدل المجلس عن قراره وألغى إمكانية الزيارة.

في الوقت ذاته، تتجدد أزمة أسعار الكهرباء في المنطقة، إذ تتفاوت من مجلس لآخر، على الرغم من استجرار الكهرباء من شركتين تركيتين.

وفوق ذلك، تغيب آليات الرقابة عن أعمال ومشاريع المجالس المحلية، ما فاقم حالات الفساد بمبالغ طائلة. الأمر الذي يؤدي إلى تناحر العائلات على منصب رئيس المجلس المحلي مثلاً، كما حدث من اقتتال قبل أشهر في بلدة كفرة، والذي سقط فيه قتلى وأُحرقت منازل وهُجّرت عائلات بأكملها.

هذا الواقع لم يكن مشجعاً للمنظمات الإغاثية والتنموية والإنسانية للعمل في منطقة سيطرة الجيش الوطني. وكذلك الأمر مع منظمات المجتمع المدني، التي لكي تنفّذ مشاريعها، باتت بحاجة لموافقة تركية أو مشاركة منظمات تركية أو الخضوع لإشراف رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ التركية ( AFAD). في المحصّلة، أدى كلّ ذلك لخسارة المنطقة كثيراً من المشاريع.

بينما تتنوع مصادر تمويل المجالس المحلية، إذ تدفع تركيا رواتب الموظفين، وتنفذ المجالس مشاريعاً في البنية التحتية ومشاريعاً تنموية من عائدات ضرائب المعابر الحدودية ومن الرسوم والضرائب التي تُجبى في المنطقة، كما تنفذ المجالس مشاريع بالتعاون والتنسيق مع منظمات سورية أو تركية.

وفي عام 2019، تسلّم عبد الرحمن مصطفى (تركماني) رئاسة الحكومة السورية المؤقتة، وحاول خلال ذلك إحداث اختراقات في منطقة سيطرة الجيش الوطني على مستوى الفصائل العسكرية والمجالس المحلية، فعزز علاقته مع قائد “فرقة الحمزة” وقيادات آخرين في الجيش الوطني وبعض رؤساء المجالس المحلية. وبدعم تيارات من الجانب التركي، تمكن مصطفى من إعادة بعض صلاحيات حكومته التي كانت مفقودة، تحديداً في ملفي التعليم والقضاء، فزاد مثلاً من حضور وزير الدفاع، وإن كان على الصعيد الشكلي والرمزي.

وفي مطلع العام الجاري، لاحظ الجانب التركي أن الاستمرار في آليات العمل المدني والإداري بهذا الشكل، يعيق عملية التنمية، بما يتنافى مع خطة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان؛ بإعادة مليون لاجئ سوري إلى سوريا. هكذا، أصبحت الأولوية للتنمية بعد أن كانت للأمن. ومن المتوقع قريباً، تعيين منسق تركي واحد، وإنهاء حالة الانقسام على ثلاث ولايات.

الجيش الوطني والأمن

على الرغم من تشكيل الجيش الوطني السوري بتنظيم ودمج عدد كبير من الألوية والكتائب وتبعيته رسمياً لوزراة الدفاع في حكومة الإنقاذ، إلا أن دور الوزارة رمزي بالكامل. لهذا، شهدت المنطقة فلتاناً أمنياً خطيراً، وباتت الاشتباكات والاقتتال بين الفصائل شبه يومية في العامين 2018 و2019.

ومع انتهاء المعارك، انتقلت الفصائل لتقاسم الغنائم، وكانت الغنيمة الكبرى متعلقة بمعابر التهريب مع مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة “قسد”، لإدخال المحروقات والبضائع والبشر، وكذلك المعابر الحدودية الرسمية بين سوريا وتركيا، والتي تدر شهرياً ما يزيد عن مليون دولار أميركي.

وفي عام 2021، كانت حرب المعابر قد انتهت تقريباً بسيطرة الفصائل الكبرى على معابر التهريب، فبات لكل منها معبراً محدداً، إضافة إلى سيطرتها على معابر رسمية مع تركيا. وتفادياً لعودة الاقتتال، جرى الاتفاق بينهم، فيما يتعلق بالمعابر الرسمية، على نسب معيّنة، بحيث يحصل الفصيل العسكري المسيطر على المعبر على نصف الواردات، بينما يعود الربع الأول للمجالس المحلية والربع الثاني للحكومة المؤقتة و”عائلات الشهداء”.

كان الصراع في هذه الفترة بين كتلتين عسكريتين:

الأولى: “الفيلق الثالث”، وعموده الفقري “الجبهة الشامية”، التي كان عمودها الفقري قبل عملية درع الفرات “لواء التوحيد”، الذي كان يقوده عبدالقادر الصالح. والجبهة الشامية من الفصائل الأصيلة في المنطقة، والناشطة بداية العمل المسلح، ولها هيكلة واضحة ومجلس قيادة ومجلس شورى. ويرفض الفيلق الثالث مشاركة مقاتليه في المعارك خارج سوريا، مثل ما حدث في ليبيا وأذربيجان وإفريقيا، وذلك على عكس الكتلة الثانية التي قامت بهذه المهمة لصالح تركيا.

الثانية: “الفيلق الثاني”، وعموده الفقري 3 فرق مستحدثة بعد درع الفرات، وهي الأكثر اعتماداً من الجانب التركي:

  • فرقة السلطان مراد، والتي يقودها فهيم عيسى (تركماني).
  • فرقة الحمزة، والتي يقودها سيف بولاود (تركماني).
  • فرقة سليمان شاه، ويقودها محمد جاسم الملقب بـ “أبو عمشة”، وهو قائد كتيبة صغيرة سابقاً في سهل الغاب بريف حماة.

هكذا، ما إن انتهى عام 2021، حتى اكتملت خريطة سيطرة الفصائل، فيما بدأت الأخيرة بعملية هيكلة وتنظيم، فأخضعت مقاتليها لمعسكرات تدريبية، وفعّلت مبدأ المحاسبة بشكل أكبر. مع ذلك، انتقل بعدها معظم قادة الفصائل للاستثمار والعمل التجاري والصناعي ومشاركة التجار والصناعيين، مستغلين سطوتهم ورغبة أصحاب الأموال بوجود ظهير عسكري لأعمالهم، ثم انتقلت هذه الدورة الاقتصادية الفاسدة لمرحلة احتكار الفصائل للقطاعات الرابحة.

منذ بدء معركة درع الفرات ومن بعدها غصن الزيتون، والفصائل العسكرية تنشر حواجز التفتيش على مداخل المدن والبلدات وعلى الطرق الرئيسية، وقد تسببت هذه الحواجز باقتتال وإزعاج للسكان، نتيجة للمعاملة السيئة وفرض الإتاوات على التجار.

غير أن أسوأ عام شهدته المنطقة من الناحية الأمنية، كان 2020. حيث كانت تفجيرات “تنظيم الدولة” و”قسد”، تضرب الأسواق والحواجز بشكل نصف أسبوعي، فخلّفت مئات القتلى والجرحى. لذلك، سارعت تركيا والجيش الوطني لترقيع الخلل الأمني، فأحيلت إدارة الحواجز للشرطة العسكرية. لكن الشرطة العسكرية لكونها أصلاً مكوّنة من الفصائل العسكرية الموجودة، بقيت كل مجموعة من الشرطة العسكرية موالية للفصيل الذي كانت فيه، وهو ما عرقل التجربة في البداية، بيد أنّه بعد العمل على فك الارتباط القديم، وهيكلة الشرطة العسكرية بشكل أفضل، حلت أزمة الأمن والحواجز بنسبة جيدة.

وفي هذا الصدد، نشطت المخابرات التركية والأجهزة الأمنية في الفصائل العسكرية في عامي 2021 و2022، ضد خلايا “تنظيم الدولة” و”قسد”، وتمكنوا من تفكيك معظمها، فكان عام 2023 هو الأفضل من الناحية الأمنية.

إنّ الجيش الوطني مرهون بقرار تركيا في السلم والحرب، لأن الأخيرة أصبحت هي الجهة الدولية الوحيدة الداعمة لها بالمال والسلاح، وذلك بعد أن أغلق الرئيس الأميركي وقتها دونالد ترامب، عام 2017، مشروع الـ سي آي أي لدعم الفصائل العسكرية بالمال والسلاح؛ ولأن تركيا أيضاً أمّنت الحماية للمنطقة بعد تفاهمات مع روسيا وإيران، ونشرت عدداً كبيراً من قواتها داخل سوريا.

دخول هيئة تحرير الشام.. آخر المتغيرات الكبرى

ضجت المنطقة في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، باغتيال الناشط “محمد عبد اللطيف أبو غنوم” وزوجته الحامل في مدينة الباب، برصاص ملثمين. على إثرها، تحرك “الفيلق الثالث” وعماده الجبهة الشامية، للتحقيق في الحادثة، واكتشف أن فرقة الاغتيال تتبع لـ “فرقة الحمزة” (أحد أكبر الفصائل المستحدثة بعد درع الفرات)، فداهمت مقرات الفرقة للقبض على المجرمين، ونشر الفيلق أدلة -بالصوت والصورة- على تورط قيادة الفرقة بالاغتيال.

كانت حادثة اغتيال أبو غنوم وتحرك الفيلق الثالث، الشرارة التي ستشعل حرباً ستسمرّ لعام كامل، وسوف تغيّر من التحالفات وخريطة سيطرة الفصائل.

دخلت قوات كبيرة لـ “هيئة تحرير الشام” للمرة الأولى إلى مناطق سيطرة “الجيش الوطني”، ووصلت مشارف مدينة عفرين، ثم التقت بقوات فرقتي “الحمزة” و”سليمان شاه” في عفرين. هاجمت هذه القوة الكبيرة مدينة اعزاز موطن ومركز “الفيلق الثالث”، كما هاجمت كتائب صغيرة متحالفة مع الهيئة مقرّات الفيلق الثالث في محيط الباب، واستمرت المعارك العنيفة على أطراف أعزاز لأشهر، تدخل بعدها الجيش التركي وأجبر القوة المهاجمة على العودة.

هذه المعركة كشفت عن تحالف خفي بين الفرقتين وهيئة تحرير الشام، لتتغلغل الأخيرة في المنطقة. كما أن تدخل الجيش التركي، وعدم تدخل المخابرات، لوقف هجوم الهيئة وطردها من المنطقة، أثار الشكوك بوجود تيارين غير متفقين على بعض الجزئيات.

بعد أن فشلت هيئة تحرير الشام بهجومها، بدأت عملية ناعمة لاختراق صفوف الفيلق الثالث وإحداث انشقاقات فيه، قبل ضم المنشقين لحلفها في المنطقة. لكن هذا المخطط الناعم، الذي كان يديره أحد أكبر قيادات هيئة تحرير الشام العراقي “أبو ماريا القحطاني” ومساعده السوري “أبو أحمد زكور” (رفيقي درب الجولاني من العراق إلى سوريا)، انتهى بعد أن اعتقلت الهيئة القحطاني بتهمة التدبير لانقلاب، ثم حاولت اعتقال زكور من مدينة اعزاز وفشلت في ذلك.

ومنذ أشهر قليلة، ومؤشرات جديدة آخذة بالظهور: انفكّ العقد بين الهيئة وفرقتي الحمزة والسلطان سليمان شاه، وضربت الخلافات والانشقاقات صميم الجبهة الشامية، فيما بدأ الجانب التركي بضبط التحالفات الجديدة. أيقن الأتراك أن اختراق “هيئة تحرير الشام” للمنطقة، خلل يمس أمن تركيا القومي. لذا ألزمت وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة جميع الفصائل الصغيرة غير المنضوية تحت أحد فيالق الجيش الوطني، بالانضمام إليها، وهددت بضرب الرافضين بصفتهم “خارجين عن القانون”. فيما بدت هذه الخطوة، كمحاولة لإنهاء نفوذ “تحرير الشام” عبر هذه الفصائل الموجودة في ريف حلب الشمالي، وهي “تجمع الشهباء و”أحرار الشام – القطاع الشرقي” و”الفرقة 50″ و”حركة نور الدين الزنكي”. ولهذا فقد تشهد المنطقة في الوقت القريب، استقراراً أكبر على مستوى الفصائل والسيطرة.

مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام

استفراد هيئة تحرير الشام بالحكم

شنت “جبهة النصرة” منذ عام 2014، سلسلة هجمات منظمة وواسعة ضد فصائل “الجيش الحر” في إدلب وحلب وحماة. ثم في مارس/آذار عام 2015، شكلت الفصائل العسكرية الإسلامية وفصائل الجيش الحر في إدلب؛ “جيش الفتح”، الذي وسّع مساحات السيطرة بسلسلة من المعارك الكبيرة، التي شملت مدن إدلب وأريحا وجسر الشغور، لتكسب جبهة النصرة حينها شعبية واسعة.

انبثق عن “جيش الفتح” لجنة مدنية لإدارة وحكم المدن المحررة الجديدة، بينما كانت مدينة إدلب التحدي الأبرز. وحاولت جبهة النصرة تحويل غرفة عمليات “جيش الفتح” إلى فصيل عسكري جامع، تندمج فيه جميع الفصائل، وتتمترس النصرة بداخله تفادياً لتصنيفها بالإرهاب.

كانت معركتي فك الحصار عن مدينة حلب (أغسطس/ آب – نوفمبر/ تشرين الثاني 2016) آخر معارك “جيش الفتح”. ثمّ لاحقاً، وبعد تهجير فصائل وأهالي حلب نهاية العام نفسه، أطلقت تركيا وروسيا وإيران “مسار أستانا” في 23 يناير/ كانون الثاني 2017، وانبثق عنه اتفاق خفض التصعيد.

في اليوم الثاني من “أستانا 1″، هاجمت جبهة النصرة، التي غيرت اسمها حينها لـ “جبهة فتح الشام”، خمسة فصائل كبرى، بحجة مشاركة الأخيرة في “أستانا” وتوقيعها على شرط قتال جبهة النصرة. وبعد فترة من الاشتباكات، أعلنت هذه الفصائل انضمامها إلى “حركة أحرار الشام الإسلامية” للاحتماء بها. ومن جانبها، شكلت جبهة فتح الشام مع فصائل أخرى؛ “هيئة تحرير الشام” في 28 يناير/ كانون الثاني عام 2017. وكان من اللافت انضمام “حركة نور الدين الزنكي” للهيئة الجديدة، والزنكي فصيل جيش حر أصيل، معقله ريف حلب الغربي، وسبق أن دخل بتحالفات كثيرة مؤقتة ومصلحية.

أما حركة أحرار الشام، فقد تحوّلت إلى الاعتدال أكثر فأكثر، وقدمت نفسها كخيار ثوري وطني سني، ورفعت علم الثورة السورية، وتوجهت أكثر للدبلوماسية في عملها السياسي. وبعد مبادرات مختلفة، ودعوتها وفصائل أخرى لأكاديميين وناشطين لإدارة مدنية للشمال السوري، هاجمت هيئة تحرير الشام منتصف عام 2017 حركة أحرار الشام الإسلامية، وسيطرت على معظم مناطق سيطرة الحركة ومقارها، ثم سيطرت على مقر الحركة الرئيس وأبرز مصدر لتمويلها؛ “معبر باب الهوى” الحدودي مع تركيا.

انشقت حركة الزنكي عن الهيئة بعد هجوم الأخيرة على حركة أحرار الشام. وفي فبراير/ شباط عام 2018، شكلت حركة الزنكي وما تبقى من حركة أحرار الشام؛ “جبهة تحرير سوريا”. كما شكلت في مايو/ أيار عام 2018، مع ما تبقى من فصائل الجيش الحر، أبرزها “فيلق الشام” المدعوم تركياً؛ “الجبهة الوطنية للتحرير”. وفي أغسطس/ آب عام 2018، انضمت جبهة تحرير سوريا للجبهة الوطنية للتحرير.

كانت آخر هجمات هيئة تحرير الشام على الفصائل الأخرى ضد حركة الزنكي، رغم أن الأخيرة كانت منضوية تحت الجبهة الوطنية للتحرير، لكنها تُركت وحيدة لتواجه الهجوم. وبعد اشتباكات ومعارك عنيفة استمرت لأشهر، وفي مطلع العام 2019، تمكنت هيئة تحرير الشام من السيطرة على معاقل الزنكي، لتتفرد مذ ذاك اليوم بمناطق سيطرتها الحالية في إدلب وريف حلب الغربي، دون أن تنازعها في ذلك الجبهة الوطنية للتحرير، التي انشغلت بالعمل العسكري.

حكومة الإنقاذ.. ذراع مدني للهيئة

في الجولة السادسة من “أستانا” منتصف أيلول/ سبتمبر 2017، اتفقت الدول الضامنة على ضم منطقة إدلب لمناطق خفض التصعيد، وتشكيل نقاط مراقبة لوقف إطلاق النار، فأعلنت هيئة تحرير الشام رفضها مخرجات الاجتماع، وأطلقت معركة فاشلة في ريف حماة الشمالي، تبعها موجة قصف روسي كبيرة. عدلت الهيئة عن رفضها مخرجات “أستانا” بعد شهر، عندما دخل أول رتل عسكري تركي إلى إدلب لاستطلاع المواقع التي سيقيم فيها نقاط المراقبة بمرافقة من الهيئة.

وبعد يومين من “أستانا 6″، عقدت شخصيات مدنية وعسكرية “المؤتمر السوري العام” في إدلب برعاية غير رسمية من هيئة تحرير الشام. حضر المؤتمر شخصيات مدنية وعسكرية وممثلي هيئات تتفاوت انتماءاتهم بين مناهض للهيئة وموارب لها ومناصر لها. وكانت أبرز مخرجاته، تشكيل هيئة تأسيسية لتسمية حكومة في الداخل تقصي الحكومة السورية المؤقتة. ومن هنا، صدرت النسخة الأولى من “حكومة الإنقاذ”، على أنقاض “الإدارة المدنية للخدمات” التي كانت تتبع للهيئة.

أصرت تحرير الشام على ربط هذا الحراك المدني بها، لكن السيرورة والتطوّر الذي كان عليه “الإنقاذ”، أثبت التبعية المطلقة، وكان أولى الدلائل أن الهيئة اشترطت على كل الفصائل التي ضربتها بأن تتبع مناطقها للحكومة الجديدة، مثل ما حدث في مناطق سيطرة الأحرار والزنكي.

في إدلب: المعركة الأخيرة للنظام والتدخل العسكري التركي

شنت قوات النظام، بمشاركة إيرانية وغطاء جوي روسي كثيف، هجوماً واسعاً على ريف إدلب الجنوبي الشرقي، رغم “اتفاق سوتشي” بين روسيا وتركيا. ومع بداية العام 2018، كانت قد وصلت القوات المهاجمة إلى “مطار أبو ظهور العسكري” في ريف حلب الجنوبي. وبعد 4 أشهر، استكمل الجيش التركي إنشاء نقاط المراقبة الـ 12، بموجب اتفاق خفض التصعيد مع روسيا وإيران على خطوط التماس مع قوات النظام.

وفي 17 سبتمبر/ أيلول عام 2018، اتفق الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في مدينة سوتشي، على إنشاء “منطقة منزوعة السلاح” في منطقة إدلب، تكون تحت مراقبة جيشهما، ويتراوح عرضها بين 15 و20 كيلومتراً على طول خط التماس. وافقت الفصائل العسكرية على ذلك، وسحبت سلاحها الثقيل من هذه المنطقة، بعد تأكيدات من أردوغان بأن هذا الاتفاق كفيل بمنع أي هجوم عسكري على المنطقة. ثم في مارس/ آذار عام 2019، بدأ الجيشان بتسيير دوريات مراقبة في المنطقة منزوعة السلاح.

وفي مطلع مايو/ أيار عام 2019، شنت قوات النظام وروسيا هجوماً واسعاً على ريف حماة الشمالي، وسيطرت على عشرات القرى، رغم المطالبات التركية بوقف الهجوم العنيف. وفي أغسطس/ آب من العام ذاته، وصلت قوات النظام إلى نقطة المراقبة التركية في مورك، وفشل رتل عسكريّ تركي في الوصول إلى النقطة بعد أن قصفته قوات النظام. استكمل النظام معركته من محاور متعددة من ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي الشرقي متجاوزاً نقطة مورك، وسيطر على مدينة خان شيخون ومن بعدها مدينة معرة النعمان، متجاوزاً نقاط مراقبة تركية أخرى. وأطلق النظام وحلفاؤه محاور هجوم جديدة من ريفي حلب الغربي والجنوبي، وسيطروا على عشرات المدن والبلدات، إلى أن بلغت المعركة مدينة سراقب، حيث يلتقي الطريقان الدوليان؛ “حلب – دمشق” و”حلب – اللاذقية”.

وشهدت مدينة سراقب في فبراير/ شباط 2020 معارك كر وفر، دعمت فيها المدفعية التركية الفصائل العسكرية. وخلال المعارك، قصفت طائرات النظام ومدفعيته رتلاً للجيش التركي في جبل الزاوية، ما أسفر عن مقتل 33 جندياً تركياً وإصابة 36 آخرين. على إثرها، أعلنت تركيا بدء عملية “درع الربيع”، وشنت طائرات بيرقدار والمدفعية التركية حملة قصف مكثفة قتل فيها المئات من قوات النظام، ودمرت فيها عشرات المدرعات والطائرات والآليات ومنظومات الدفاع الجوي.

وفي الخامس من مارس/ آذار عام 2020، عقد أردوغان وبوتين مع وفود أمنية وعسكرية، قمة استمرت لست ساعات، نتج عنها اتفاق لوقف إطلاق النار في إدلب، وزادت بعده نقاط المراقبة التركية على خط التماس الجديد، لتشهد المنطقة منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا، استقراراً كبيراً.

النسخة الثانية من الإنقاذ

عقدت ما تُطلق على نفسها اسم “فعاليات مدنية وشعبية وشخصيات اعتبارية”، “المؤتمر العام للثورة السورية”، في فبراير/ شباط 2019، على اعتبار أنه نسخة ثانية عن مؤتمر عام 2017. وكان من أبرز مخرجاته، تشكيل لجنة انتخابات عليا تضع معايير وشروط المرشحين لـ “مجلس الشورى العام”، وإجراء انتخابات عامة بعد تحديد عدد المرشحين لكل منطقة، على أن يتولى مجلس الشورى مهمة السلطة التشريعية كبرلمان لمنطقة إدلب.

ظهرت أولى ملامح وتوجهات حكومة الإنقاذ الإيديولوجية، عندما أعلنت “الهيئة التأسيسية” عام 2018 عن “علم رسمي للمناطق المحررة”، وهو علم الثورة السورية، لكن باستبدال النجوم الثلاث بعبارة الشهادتين. أما ارتباطها بهيئة تحرير الشام، فظهر جليّا حين كانت قوات الهيئة تصل لفض المظاهرات المعارضة لتشكيل الحكومة، فتكون ذراعاً مدنياً للهيئة والعسكر، وكذلك عندما تسلم قياديون وأعضاء في جبهة النصرة مناصب وزارية وقيادية، ولاحقاً أيضاً عندما بدأ زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني حضور الجلسات وافتتاح المشاريع بصفته “قيادة المحرر”.

بعد أن أحكمت هيئة تحرير الشام سيطرتها على منطقة إدلب ومحيطها، أعيد انتخاب مجلس الشورى العام في مارس/ آذار عام 2019، وبلغ عدد أعضائه 107 عضو، ثم انتخبوا رئيساً للمجلس. وسبق الانتخابات تحديد شروط ومعايير الترشح من قبل لجنة الانتخابات العليا المنبثقة عن المؤتمر العام، وتقسيم إدلب إلى مناطق إدارية، وتحديد عدد الأعضاء لكل منطقة. بدت الانتخابات على أنها شكلية، ففي معظم المناطق جرى الاتفاق على أسماء الناجحين، وكان معظمهم من المقربين من الهيئة.

تجدر الإشارة، إلى أن مجلس الشورى العام يمنح الثقة للحكومات المتعاقبة، والتي كان آخرها النسخة السابعة في يناير/ كانون الثاني عام 2024.

طبيعة الحكم

تعرف “حكومة الإنقاذ” نفسها بأنها “حكومة تكنوقراط ولدت من رحم الثورة من خلال مبادرة للأكاديميين في المناطق المحررة في العام 2017”. غير أنّ النسخ الخمس الأولى، وبتتبع السير الذاتية للوزراء ومدراء المؤسسات الحكومية، كان واضح أنها حكومة يتقدم فيها الولاء والبراء على الكفاءات، ولهذا لا يمكن وصفها بـ “حكومة تكنوقراط”. وما سبق، لا ينفي وجود شخصيات وكفاءات لا علاقة لها فعلاً بالنصرة والهيئة، فيرى المناهضون للحكومة أن هؤلاء الأشخاص ليس لديهم خيارات أخرى يذهبوا إليها ويريدون تقديم خبراتهم للصالح العام، ولكن في الوقت نفسه تستغلّ “الإنقاذ” وجودهم لتبعد عنها التهم.

أما النسخة السادسة من الحكومة، فكانت أكثر فجاجة، فمعظم الوزراء فيها هم من كوادر جبهة النصرة السابقين. ويعود سبب ذلك إلى فشل الوزراء في النسخ السابقة، وتحديداً في ملف التعليم الذي تدهور لدرجة رهيبة، فهذا القطاع لا يمكن أن تقوم به حكومة وليدة دون موارد كافية. وفي الوقت ذاته، تسبب استفراد الهيئة بالمنطقة ومهاجمتها لمديريات التربية في حلب وإدلب، بتوقف الدعم الأوروبي. وبحسب تقارير صحفية، اتهم الجولاني الحكومات السابقة بالفشل في استجلاب الدعم، ولذلك قرر الاستعانة بكوادره التقليدية التي فشلت هي أيضاً فيما بعد، لأن الاتحاد الأوروبي ووكالات التنمية الأميركية والبريطانية يصنفون الهيئة كتنظيم “إرهابي” يتحكم بالعمل المدني.

اقتصرت النسخة السادسة على استبدال الإدارة المحلية والخدمات والتربية والعدل، وشهدت التشكيلة الوزارية الجديدة إضافة وزارة جديدة إلى الوزارات العشر، وهي وزارة الإعلام، والتي ترأسها أحد أبرز كوادر المكتب الإعلامي لجبهة النصرة، المعروف سابقاً باسم “المنارة البيضاء”.

عملت “الإنقاذ” منذ عام 2018 وحتى عام 2021 بقوة سلاح الهيئة، على إعادة تشكيل النقابات والمجالس المحلية والمؤسسات الخدمية والمديريات، التي كانت تتبع للحكومة المؤقتة، وغيرت الأعضاء والمديرين والقواعد الناظمة المتعلقة بها.

ومثلما هو الحال في مناطق سيطرة الجيش الوطني، حيث من المتفق أن قرار إدارة المنطقة بيد المنسقين الأتراك، فمن المتفق عند جميع الأطراف في إدلب أن حكومة الإنقاذ هي ذراع مدني لهيئة تحرير الشام، وأن القرار الفصل يعود للجولاني. لقد انتهت محاولات الحكومة بالتملص من هذه الحقيقة عام 2021، عندما ضربت أزمة الخبز الشهيرة إدلب نهاية العام، فحضر الجولاني جلسة حكومة الإنقاذ ومجلس الشورى وتعهد بمنح الحكومة 3 ملايين دولار لتدارك الوضع، ثم أخذ يدشن مشاريع الحكومة الكبيرة كما حدث في مشروع “طريق باب الهوى”، وترأس ندوة الحكومة نهاية عام 2023 لعرض أعمالها وتقييمها. ومما تجدر الإشارة إليه، أن الجولاني يحضر تحت مسمّى “القائد” دون أي توصيف رسمي يربطه بالحكومة.

بمتابعة الدورات الحكومية والوزراء وأعضاء مجلس الشورى وسلوك الحكومة، يمكن القول إن “الإنقاذ” ذراع مدني لهيئة تحرير الشام، وبالتالي يتميز نمط الحكم في إدلب عن مناطق الجيش الوطني، بأن مرجعيته لمركز واحد وليس لمراكز متعددة.

راهنت “حكومة الإنقاذ” على الأداء لاكتساب الشرعية المحلية، وساهمت مرجعيتها لمركز واحد (هيئة تحرير الشام) بتقديم الخدمات وتعميم القوانين وتطبيقها في كامل المنطقة وجباية الرسوم البلدية والضرائب. ولا يمكن مقارنة أداء حكومة الإنقاذ بأداء المجالس المحلية في منطقة الجيش الوطني، حيث أمّنت الحكومة مناخاً ملائماً للمنظمات التنموية لتنفيذ مشاريعها وتقديم التسهيلات. وهذا التفاوت بين المنطقتين، كان السبب الأول في هجرة المنظمات من ريف حلب الشمالي إلى منطقة إدلب. كما أنها نجحت باستجرار الكهرباء من تركيا عن طريق شركة خاصة وعملت على ضبط الأسعار.

يعدّ الصندوق المالي لهيئة تحرير الشام، إضافة إلى واردات معبر باب الهوى والرسوم والضرائب، مصادر التمويل الرئيسية لحكومة الإنقاذ الكبرى. وصندوق الهيئة المالي قائم على غنائم الحرب سابقاً، ومن ثم اعتمدت الهيئة نمط احتكار القطاعات الرابحة كالمحروقات والاتصالات والكهرباء، وأنشأت شركات خاصة لذلك، لكنها مكشوفة التبعية بناء على مدراء هذه الشركات. فعلى سبيل المثال، وقف أمير حلب في جبهة النصرة سابقاً إلى جانب الجولاني في افتتاح طريق باب الهوى؛ أكبر مشاريع الإنقاذ، لكن هذه المرة بصفته مدير شركة الراقي للإنشاءات.

هيئة تحرير الشام نحو الاعتدال

بعد اتفاق الخامس من مارس/ آذار عام 2020، والفشل العسكري الكبير لهيئة تحرير الشام في التصدي لهجوم النظام، دأبت الهيئة في تنظيم نفسها مجدداً، فأنهت هيكلية الجيوش الأربعة، وهي هيكلية كانت تعتمد على المناطقية، ونتج عنها تكتلات وتيارات أثارت مخاوف الجولاني. عملت الهيئة على هيكلية جديدة مكونة من 12 لواء، بينما قضى الجولاني على زعماء الكتل الذين كانوا رفاق دربه، ثم شكّلت الهيئة غرفة عمليات عسكرية مع الفصائل المتبقية بقيادة “المجلس العسكري في إدلب”.

أطلق الجولاني سياسة جديدة على مستوى الخطاب والبنية والسلوك، من أجل تغيير الانطباعات واكتساب الشرعية وطي صفحات الماضي الأسود، هذا محليّاً، أما دوليّاً، فمن أجل الخروج من مأزق التصنيف، وإظهار أن الفصيل بات محلياً وبعيداً عن الأدبيات الجهادية السلفية، التي قامت على أساسها جبهة النصرة في سوريا كفرع لتنظيم القاعدة. وقدم الجولاني رؤيته لما يمكن وصفه بـ “الكيان السني الوطني”، مخاطباً الغرب في مقابلة مع موقع “فرونت لاين” الأميركي، والتي كشف فيها عن اسمه وحياته ومسيرته.

ونجحت الهيئة في تكوين علاقة مع الجانب التركي، الذي أنقذ الوضع في المعركة الأخيرة، إذ تحتفظ الهيئة بهامش جيد نسبياً من القرار، كما شهدت العلاقة بين الجانبين شداً وجذبًا خلال السنوات الماضية.

ومنذ منتصف عام 2022، وتحرير الشام تشنّ سلسلة من عشرات العمليات الخاطفة على الجبهات ضد مواقع قوات النظام، بينها عمليات خلف الخطوط على قواعد عسكرية استراتيجية بعمق 8 كم، حتى وقع تفجير الأكاديمية العسكرية في حمص في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، والذي قتل فيه عشرات العسكريين وذويهم. اتهم النظام “التنظيمات الإرهابية” -على حد وصفه- بالوقوف وراء التفجير عبر طائرات مسيرة، فعلى إثرها أطلق وروسيا حملة قصف عنيفة أسفرت عن مقتل وإصابة مئات المدنيين في إدلب، ومن ثمّ عاد الهدوء للمنطقة.

أكبر تحديات “تحرير الشام” منذ نشأتها

تعرّضت هيئة تحرير الشام لاختراق أمني كبير وخطير جداً، إذ كشف “موقع تلفزيون سوريا” أواخر يونيو/ حزيران عام 2023 عن اعتقال الجهاز الأمني في الهيئة عشرات من العناصر والقياديين، بتهمة العمالة لروسيا والنظام السوري، وآخرون لوكالة المخابرات المركزية الأميركية.

شكل الجولاني خلية أزمة تضم إلى جانبه كلاً من القياديين أبي أحمد حدود وأبي أحمد زكور والشرعي العام للهيئة عبد الرحيم عطون، ثم أعلنت الهيئة رسمياً عن “أزمة العملاء” في يوليو/ تموز عام 2023، وقالت إنها “ضبطت خلية تعمل لصالح جهات معادية بعد ملاحقة استمرت 6 أشهر”.

تعقّد الاختراق الأمني أكثر، وكذا الأزمة الداخلية، عندما كشف “موقع تلفزيون سوريا” مجدداً، عن اعتقال الهيئة للقيادي العراقي في الصف الأول “أبو ماريا القحطاني”، بتهمة تدبير انقلاب والتحرك دون أوامر القيادة العامة، لتصدر الهيئة بياناً رسمياً في اليوم الثاني تؤكد فيه اعتقال رفيق درب الجولاني من العراق إلى سوريا “بعد أن توصلت لجنة التحقيق إلى أن القحطاني أخطأ في إدارة تواصلاته دون اعتبار لحساسية موقعه أو ضرورة الاستئذان وإيضاح المقصود من هذا التواصل”، وفقاً للبيان.

لاحقاً، انكشف ملف القحطاني، إذ كان وصديقه القيادي في الهيئة جهاد عيسى الشيخ، الملقب بـ”أبو أحمد زكور”، مسؤولان عن ملف اختراق مناطق الجيش الوطني، ونجحا في ذلك بدرجة كبيرة. وانكشف هذا النجاح عندما تحركت الهيئة مباشرة لمساندة حلفائها داخل الجيش الوطني، بعد مقتل الناشط “أبو غنوم”. خلال ذلك، استشعر الجولاني أن رفيقي دربه يدبران لانقلاب عليه، من خلال الفصائل التي اخترقها الرجلان، بالإضافة إلى كتل ومجموعات أصيلة من الهيئة.

وفي منتصف  يناير/ كانون الثاني عام 2023، داهمت هيئة تحرير الشام مقر “زكور” الذي هرب إلى مدينة أعزاز ليحتمي بأبناء عشيرته “البكارة”، ثم تمكنت الهيئة من اعتقاله من مقره في اعزاز بعد اشتباكات، لكن قوة من الاستخبارات التركية والجيش الوطني أوقفوا رتل الهيئة في طريق عودته لإدلب واستخلصوا “زكور”.

خلال أزمة القحطاني وزكور، لم تتوقف الهيئة عن اعتقال المئات من القياديين العسكريين في صفوفها، بينهم قياديون معروفون خاضوا معارك كبرى منذ بدء العمل المسلح في سوريا، بالإضافة إلى مسؤولين في “حكومة الإنقاذ” وأعضاء في “مجلس الشورى العام”، وتعمدت الصفحات الإعلامية الرديفة للهيئة على تشويه سمعة المعتقلين.

بعد احتجاجات وتوترات ومناشدات للجولاني بالنظر في قضية هؤلاء المعتقلين، بدأت الهيئة تباعاً في فبراير/ شباط الجاري إطلاق سراح العشرات منهم بعد ثبوت براءتهم. وزار الجولاني المُفرج عنهم في منازلهم ومقارهم واعتذر منهم، وهنا بدأت الأزمة الأكبر.

روى المفرج عنهم، أشهر التعذيب الشديد الذي تعرضوا له في سجون “جهاز الأمن العام” (المكتب الأمني في الهيئة والذي يُعرّف نفسه رسمياً بأنه لا يتبع لا للحكومة ولا للهيئة)، وكيف أجبرهم المحققون على الاعتراف ظلماً بتهمة العمالة وهددوهم بقتلهم في حال ارتدوا عن اعترافاتهم أو أخبروا الجولاني بما يحدث في التحقيق، فارتفعت الأصوات داخل الهيئة وخارجها مطالبة باستقالة الجولاني وأبي أحمد حدود و”تيار بنش” الذي يقوده أشقاء زوجة الجولاني. ونشر قياديون في الهيئة كانوا موالين بالكامل للجولاني وقيادة الهيئة، منشورات تدعو لحل جهاز الأمن العام وإعدام المحققين، وهدد بعض المفرج عنهم بالتحرك عسكرياً.

ما زالت هذه الأزمة الأخيرة في توسّع كلّ يوم، رغم اعتذارات الجولاني ووعوده بالانتقام وإحقاق الحق، لتكون هذه هي الأزمة الأكبر التي تضرب صفوف هذا التنظيم العسكري المركزي. حيث اندلعت المظاهرات التي نادت بصوت مرتفع بإسقاط الجولاني، وأخذت نقاط التظاهر وأعداد المشاركين تتوسع شيئاً فشيئاً، حتى سارعت “حكومة الإنقاذ” و”مجلس الشورى” لعقد مؤتمرات موسعة علنية وأخرى ضيقة سرية، مع من أسمتهم “أعيان ووجهاء وأكاديميين”، لفحص مطالب الناس وشكاويهم. خرج المجتمعون بعدد من البنود الإصلاحية، كان جميعها دون سقف المطالب والتوقعات بكثير، إذ ركزت على الجانب المعيشي للناس، ولكنها حتى في هذا السياق لم تقدم البنود خطوات كبيرة من شأنها أن تحسّن الواقع المعيشي.

تحت ضغط قيادات وعناصر الهيئة من أبناء المحافظات الشرقية في سوريا، لم يبق أي خيار للجولاني، الذي هُدّد بالانشقاق عنه والتصعيد العسكري ضده، سوى إطلاق سراح القحطاني. واستقبل تيار الشرقية في الهيئة زعيمهم باحتفال كبير، وعاد الرجل العراقي لمضافته يستقبل وفود المهنئين دون أن يتحدث بعدها بكلمة واحدة.

لم تتوقف المظاهرات التي دخلت أسبوعها الخامس، فكان الرضوخ الأهم للمطالب عندما أُلحق “جهاز الأمن العام” بوزارة الداخلية في “الإنقاذ”. وقد تزامنت هذه الأزمة الكبيرة مع انتهاء أعمال الدورة الثالثة لـ”مجلس الشورى العام”، فأعلن المجلس عن اختيار أعضاء جدد للجنة العليا للانتخابات تمهيداً لاعتماد آلية انتخاب مجلس شورى جديد، استجابة لمطالب الأهالي.

الجدير بالذكر وجود 5 تيارات تتحرك في المظاهرات ضد الجولاني، تغيب عنها النخبة السياسية والمدنية، وهي كالآتي:

  • “حزب التحرير”، الذي تلقى ضربات متتالية من الهيئة واعتقلت معظم كوادره.
  • “حراس الدين” (فرع القاعدة في سوريا)، الذي أفنت الهيئة خلاياه وبقي له أنصار لا فاعلية لهم.
  • “جيش الأحرار”، بقيادة أبو صالح طحان والمنضم للهيئة، لكن مقتل أحد قياداته تحت التعذيب أشعل شرارة النزاع.
  • “تيار آل بدوي” في بنش، وهي عائلة صاهرت الجولاني وتربعت على رأس قيادة التنظيم وملحقاته، ودعمت بقوة اعتقال المنافسين بتهم العمالة، لكن استجابة الجولاني والإفراج عن المتهمين زوراً أغضبت أولاد عمومته.
  • “حراك شبابي ثوري”، وهو حراك من الناشطين بعيدٌ عن الحزبيّة والأدلجة، لكن تخشى هذه الفئة أن تكون كبش الفداء في أي مصالحة محتملة مع التيارات السابقة، فتترحك بحذر.

يتعامل الجولاني مع المأزق الحالي ومع تبعات قضية العملاء، على أنها أزمة مفتعلة من لاعب إقليمي لإضعافه دون القضاء عليه، فبعد أن أعلن عن خطوطه الحمر وتجاهل المظاهرات، وضع الجولاني خطة عمل، وتمكن بشكل جيد من ترتيب بيت الهيئة الداخلي، فعيّن 4 من المفرج عنهم كقادة عسكريين، وكسب ولاء الجناح العسكري ككل، وقدّم وعوداً بالإصلاحات في الجانبين الحوكمي والمعيشي.

لكن، وفي ليلة الرابع من أبريل/ نيسان الجاري، دوّت المفاجأة كالصاعقة. احتضن انتحاري القحطاني داخل مضافته، التي يستقبل فيها المهنئين بإطلاق سراحه في مدينة سرمدا شمالي إدلب، وفجّر نفسه والقحطاني بحزام ناسف. بعدها بأقل من ساعتين، أعلنت هيئة تحرير الشام مقتل القحطاني بتفجير عنصر من تنظيم الدولة نفسه، وأصدرت الهيئة بيانا رسمياً كالت فيه المدائح للرجل العراقي، ثم نشرت صوراً للجولاني يبكي فوق جثة القحطاني ويتوعد بالثأر.

ومنذ مقتل القحطاني، والصمت الممزوج بالخوف يسود إدلب، فتوقفت المظاهرات والمنشورات والتحريضات، ولم يبد أنصار القحطاني في التنظيم أي ردة فعل أو تهديد حتى الآن، بينما ذهبت تحليلات إلى القول بأن هذه الضربة القاضية قد أعادت ضبط الوضع بالكامل.

ما شكل الحياة في الشمال؟

أنتج هذا الوضع المركب، من تحوّلات وتطوّرات وتحديّات في سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا، أنماط معيشة خاصة تختلف باختلاف السيطرة بين المنطقتين.. فما هو نمط حياة السكان هناك؟ وما هي مقومات الصمود لديهم؟ وما أبرز المشكلات؟

التعليم الأساسي

في مناطق سيطرة الجيش الوطني: تدير المدارسَ، المكاتبُ التعليمية في المجالس المحلية بالتعاون مع مديرية التربية والتعليم التابعة للحكومة المؤقتة، وتؤمن لها الرواتب والمستلزمات المختلفة، بمساعدة من منظمات محلية وأخرى دولية وتركية.

في مناطق سيطرة “تحرير الشام”: تدير نسبةً صغيرة من مدارس المنطقة، وزارةُ التربية والتعليم، التي لم تستطع تأمين دعم دولي لهذا القطاع المكلف. في حين تساهم المبادرات المجتمعية المحلية، إضافة لتبرعات التجار والمغتربين، في تشغيل مدارس في بلداتهم ومدنهم. وافتتحت الهيئة – بتبعية غير معلنة رسمياً – سلسلة مدارس “الوحي الشريف”، وهي أفضل المدارس من ناحية التجهيزات والمستلزمات والمدرسين والمنهج العلمي، وفيها للمواد الشرعية والدينية حيز كبير. كما انتشرت في المنطقتين مدارس خاصة لمراحل التعليم الثلاثة، وهي مناسبة للفئات المقتدرة مادياً.

التعليم الجامعي

في المنطقتين جامعتان حكوميتان، هما: “جامعة إدلب” و”جامعة حلب” في المناطق المحررة، كما تضم المنطقتين عدداً من الجامعات الخاصة برسوم وفروع متفاوتة.

وفي منطقة الجيش الوطني فروع لجامعات تركية حكومية، تستلزم النجاح في امتحان الطلاب الأجانب “اليوس”، ويمكن لخريجي الكليات التركية في الداخل السوري استكمال الدراسات العليا والدكتوراه داخل تركيا.

وقد نجحت جامعة إدلب في تأمين عدد محدود من مقاعد الدراسات العليا والدكتوراه لخريجيها في الداخل التركي، بمساعدة من “الأوقاف التركية” وبعض الجامعات الحكومية.

الكهرباء

قبل العام 2019، كانت الكهرباء في كامل شمال غربي سوريا قائمة على المولدات الكهربائية الكبيرة، والاشتراكات برسوم كانت تنخفض وترتفع بحسب واردات النفط من “قسد”. ثم بدأت شركة AK Energy التركية بتغذية مناطق الجيش الوطني بالكهرباء بعقود مع المجالس المحلية، كما دخلت على المنطقة شركة STE السورية – التركية.

وشهدت مدن ريف حلب الشمالي مظاهرات كثيرة احتجاجاً على رفع الأسعار من قبل الشركتين، وتجاوز السعر المتفق عليه في العقود، دون تدخل من المجالس المحلية، ولمّا تدخلت بعض المجالس قُطعت الكهرباء بحجج التقنين والصيانة.

وفي منتصف عام 2021، دخلت الكهرباء من تركيا إلى إدلب عن طريق شركة green energy بأسعار أعلى من أسعار الشركتين في مناطق الوطني.

الطبابة

ضربت “جائحة كورونا” العالم وانشغلت الدول في تحصين نفسها واستيعاب الإصابات القاتلة، ومنذ ذلك الحين تراجع دعم القطاع الطبي من المنظمات الدولية في شمال غربي سوريا، ووصلت اللقاحات إلى الشمال متأخرة كثيراً، لكن خفف من تداعيات تراجع الدعم الكبير انحسار العمليات العسكرية وحملات القصف.

تتمثل أزمة الطبابة في الداخل السوري في عدم وجود مراكز وأطباء وتجهيزات قادرة على التعامل مع الأمراض الخطيرة، مثلَ السرطان والكلى والتشوهات والأمراض الجينية وبعض العمليات العصبية والقلبية، وهي حالات كانت تحوّل إلى تركيا لتلقي العلاج مجاناً. لكن منذ عامين، لم تعد إجراءات دخول هؤلاء سهلة، فمنعت تركيا دخول المرافقين باستثناء الرضع، ولم يعد العلاج مجانياً بالكامل. وبعدها أوقف معبر باب الهوى لأشهر دخول مرضى السرطان، ثم سمح بدخول قسم منهم بصعوبات جمّة بعد الاحتجاجات الكبيرة.

أما الغالبية العظمى من المستشفيات في إدلب، فمدعومة من منظمات طبية سورية تتلقى دعماً من تبرعات أو منظمات طبية دولية، ومن منظمة الصحة العالمية. وفي مناطق سيطرة الجيش الوطني، فلا تعمل هذه المنظمات، وتدير وزارة الصحة التركية مستشفيات ومستوصفات في الداخل بدعم من الاتحاد الأوروبي، ويعمل فيها أطباء وممرضون وإداريون أتراك يتقاضون رواتب تعادل عشرة أضعاف رواتب الأطباء السوريين.

المساعدات الإنسانية الأممية

صوّت مجلس الأمن على القرار (2165) عام 2014، والذي يمنح تفويضاً لوكالات الأمم المتحدة وشركائها بتقديم المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، دون اشتراط الحصول على موافقة النظام عبر 4 معابر حدودية، هي: باب الهوى (إدلب)، وباب السلامة (أعزاز)، واليعربية بين مناطق “قسد” والعراق، ومعبر الرمثا بين درعا والأردن.

كانت روسيا تمرر التفويض كل عام، لكنها في مطلع العام 2020 استخدمت “الفيتو”، ووظفت المساعدات الإنسانية سياسياً، وطالبت بأن تكون بموافقة النظام ومن خلاله، وانتهت المفاوضات بين موسكو وواشنطن بتمديد آلية المساعدات عبر باب الهوى فقط.

لم تقتصر الكارثة على إغلاق معبر باب السلامة واقتصار الإمداد إلى شمال غربي سوريا على باب الهوى فقط، بل تفاقمت حين وصلت نسبة العجز في عمليات تمويل الاستجابة الإنسانية في سوريا في عام 2023 إلى 90%، بينما بلغت نسبة العجز في الاستجابة لكارثة الزلزال في السادس من فبراير/ شباط 70% فقط، وذلك بحسب فريق “منسقو الاستجابة” المختص برصد الأوضاع الإنسانية والتمويل في شمال غربي سوريا.

تتلقى سوريا ودول الجوار المستضيفة للاجئين السوريين، تبرعات من الدول الغنية، تجتمع سنوياً في بروكسل لهذه الغاية، وتتعهد الدول بتقديم المليارات، لكن بعد أزمة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا، لم تعد تفِ هذه الدول بتعهداتها، ما تسبب بفجوة تمويل هائلة، بلغت إلى حد إعلان “برنامج الأغذية العالمي” توقفه عن العمل في سوريا مطلع العام الجاري.

الزراعة والصناعة

تتمثل المشكلة الأكبر في الزراعة والصناعة باعتمادها على السوق المحلية فقط، لعدم وجود إمكانية لتصدير المنتجات عبر تركيا، وبسبب إغلاق المعابر البرية العابرة لخطوط النار بين مناطق سيطرة المعارضة ومناطق سيطرة النظام و”قسد”. لكن افتتحت المجالس المحلية في مناطق الوطني و”حكومة الإنقاذ” مدناً صناعية في المدن الكبرى، وأنشأ صناعيون مغتربون وآخرون في الداخل، معامل كبيرة ومتوسطة تنتج أهم المواد المطلوبة والمستهلكة في الشمال السوري، مع وعود من الجانب التركي بمنح الصناعيين شهادات منشأ ليتمكنوا من تصدير منتجاتهم إلى خارج سوريا. أما الزراعة فيجرب الفلاحون حظوظهم كل عام بزراعة مواسم مختلفة، تفشل أحياناً وتنجح أحياناً.

لماذا أوقفت الفصائل السورية معارك التحرير؟

بعد أن زجت إيران في سوريا بعشرات آلاف العناصر من جنسيات مختلفة، أطلقت وكالة المخابرات المركزية الأميركية عام 2013 برنامجاً سرياً لتسليح وتدريب “الفصائل السورية المعتدلة”، بالتعاون مع عدد من “مجموعة أصدقاء الشعب السوري”، فتلقى آلاف المقاتلين من الجيش الحر تدريبات عسكرية وأخرى على استخدام أسلحة حديثة، داخل قواعد عسكرية أميركية في دول عربية، ووصلت ضمن هذا البرنامج الصواريخ المضادة للدروع والذخائر الخفيفة والمتوسطة، بالإضافة إلى دعم مالي يقدر شهرياً بـ 100 – 150 دولاراً للمقاتل الواحد، تشمل مصروفه وإطعامه ومصاريف الفصيل.

رغم قلة المبالغ المالية والذخائر، ساهم البرنامج الذي بات يعرف محلياً في الجنوب السوري باسم “الموك – Military Operations Center (MOC)” ومقره الأردن، وفي الشمال السوري باسم “الموم” ومقره تركيا؛ بصمود الجيش السوري الحر في معظم الجبهات، وتمكنه من شن معارك تحرير واسعة.

في يونيو/ حزيران عام 2017، وقبل أيام من لقائه ببوتين، أنهى ترامب البرنامج، وتوصلت الدولتان لاتفاق وقف إطلاق للنار في الجنوب السوري، الذي كانت معظم فصائله تتلقى الدعم من البرنامج.

وجاء توقف البرنامج بعد 6 أشهر من سقوط مدينة حلب بيد النظام وروسيا وإيران، وكانت هذه المعركة فاصلة في المسار العسكري للثورة السورية، حتى أن بشار الأسد وصفها بـ “أم المعارك”.

بعدها، بدأت الدول الداعمة العربية والأجنبية بالتخلي عن الفصائل العسكرية السورية، في مقابل التدخل الروسي بسلاح الجو والأسلحة الفتاكة التي زود بها النظام، وكذلك التدخل الإيراني بعشرات آلاف المقاتلين الشيعة من ستة دول. كانت هذه العوامل مجتمعة، حاسمة للكثير من المعارك التي واجهتها الفصائل السورية حتى الرمق الأخير. فمعركة مدينة حلب، بدأها حلف النظام في نهاية عام 2013، وحسمها لصالحه في الأيام الأخيرة لعام 2016. وفي الغوطة الشرقية التي حوصرت لثلاث سنوات، انتهت المعركة عام 2018 باستخدام السلاح الكيماوي في دوما، معقل جيش الإسلام، ما أجبر الفصيل وأهل المدينة على القبول بالتهجير القسري إلى الشمال السوري.

استنزف “تنظيم الدولة” جميع الفصائل المقاتلة من بداية قتاله عام 2014 دون ظهير دولي، واستعصى التنظيم في ريفي حلب الشمالي والشرقي، وكاد يسيطر على المنطقة هذه بالكامل لولا تدخل الجيش التركي في عملية درع الفرات عام 2016.

كان عام 2018 حاسما، عندما شن النظام وحلفاؤه حملات واسعة على جيوب المعارضة والفصائل العسكرية في سوريا، وسيطر على هذه الجيوب باتفاقيات تهجير قسري في مناطق الغوطة الشرقية والقلمون ودرعا وجنوب دمشق وريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي.

تكدس جزء من المهجرين قسراً في إدلب، بينما الجزء الآخر في مناطق سيطرة الجيش الوطني، بعد أن تخلوا عن أسلحتهم باستثناء الخفيفة منها. وبينما كانوا يبحثون عن سكن، ويحاولون التأقلم مع حياتهم الجديدة، شن النظام وحلفاؤه الهجوم الكبير عام 2019، الذي انتهى باتفاق أردوغان وبوتين في الخامس من مارس/ آذار عام 2020.

فشلت هيئة تحرير الشام في صد تقدم النظام عامي 2019 و 2020، وكانت حينها قد ضربت الفصائل الكبرى للتفرد بالسيطرة على إدلب. وفي تلك الفترة، تدخلت تركيا لدعم ما تبقى من الفصائل في إدلب بكميات محدودة من المال والسلاح والذخائر، لكنها لم تكن كافية لمواجهة الجيوش الثلاثة المقتحمة، وخسرت الفصائل مئات المقاتلين من النخبة والكثير من العتاد المتوسط والثقيل. ثم تدخل الجيش التركي بالمعركة بجنوده وطائراته المسيرة ومدفعيته، وأعادت الفصائل تنظيم صفوفها وأوقفوا تقدم القوات المقتحمة.

بعد توقف إطلاق النار سارعت هيئة تحرير الشام إلى إعادة تنظيم صفوفها واستقطاب مقاتلين جدد، سواء من المخيمات أو عبر حملات تجنيد ومكاتب مخصصة، وكذلك نجحت باستقطاب الكثير من المقاتلين من الفصائل الأخرى في إدلب. وفي الوقت ذاته، بقي جزء من غرفة عمليات “الفتح المبين” مع باقي الفصائل، ويترأس هذه الغرفة مجلس عسكري ثلاثي (الهيئة وأحرار الشام وفيلق الشام)، وتتلقى الدعم التركي المحدود بالمال والذخائر، كما تكتنز هيئة تحرير الشام منذ تشكيل جبهة النصرة أموالاً كافية من مصادر عدة، ثم أردفت الهيئة صندوقها المالي بمبالغ كبيرة من خلال احتكار القطاعات الرابحة.

أخضعت هيئة تحرير الشام وفيالق الجيش الوطني، المقاتلين لتدريبات نوعية ومكثفة. وأفرزت الهيكلة الجديدة في كلا الكتلتين العسكريتين، مجموعات نخبة بات جل الاهتمام عليها. وانتشر الجيش التركي في عشرات مناطق النظام، على طول خط التماس من جرابلس شرقي حلب إلى جبل الزاوية جنوبي إدلب، وتحولت نقاط المراقبة إلى قواعد عسكرية، ثم مع الوقت زاد عددها.

وكانت معركة سراقب، آخر معارك حرب 2019 و2020 في إدلب، معركة كسر عظم، إذ أرهقت الطرفين المتمثلين بالفصائل العسكرية وتركيا من جهة، والنظام وحلفائه من جهة ثانية. وهذا الإرهاق الناتج، كان الدافع الوحيد ليقتنع الطرفان بوقف إطلاق النار. ومنذ اتفاق الخامس من مارس/آذار، لم يطرأ متغير على توازن الرعب سواء على المستوى المحلي أو على المستويات الدولية والدول المنخرطة في الصراع السوري.

إن دخول الجيش التركي في المعارك، ثم تحويل النتائج لمكتسبات من خلال عقد اتفاقيات مع روسيا، سواء في ريف حلب الشمالي أو في إدلب، وكذلك استفراد تركيا بدعم الفصائل العسكرية؛ جعلها بنسبة كبيرة صاحبة القرار في السلم والحرب، إذ حاولت فصائل محددة من الجيش الوطني شن هجوم على قوات النظام من منطقة الباب باتجاه مدينة حلب في فبراير/ شباط عام 2020، في محاولة لتخفيف الحمل عن فصائل إدلب، لكنها لم تستمر لأكثر من ساعات رغم إمكانية التقدم، وتسربت معلومات حينها بأن تركيا طالبت بوقف الهجوم مباشرة.

ويدور السؤال الكبير في أذهان سكان شمال غربي سوريا عن جدوى إطلاق معركة تحرير ضمن هذه المعادلة، فالقدرات العسكرية للفصائل لن تكون كافية للوصول إلى دمشق، وفي أحسن الأحوال يمكن أن تسيطر على حلب وحماة. لكن المهمة الأصعب ستكون في الحفاظ على هذه المساحة الجديدة، والهاجس القاتل هو انتقام النظام من أي عمل عسكري بموجة غارات مكثفة، تسبب أضراراً هائلة وتوقف الحياة، وتتسبب بزيادة احتياجات المساعدات الأممية الشحيحة أساساً، وبموجة هجرة جديدة إلى تركيا.

لقد أعلنت تركيا، على لسان رئيسها، أن سياستها فيما يتعلق بالملف السوري، تهدف لإعادة مليون سوري، لتخفيف الحدة الشعبية تجاه الوجود السوري في تركيا. وهذه السياسة قائمة على الحفاظ على استقرار طويل الأمد في شمال غربي سوريا، وبالتالي سيكون اتخاذ قرار معركة تحرير صغيرة أو كبيرة في سوريا معاكسة للسياسات التركية، وهذا قد يتسبب بخسارة الفصائل لظهيرهم الإقليمي الوحيد.

متى تنضج الثمرة، متى تُقطف؟

يركز تقييم أي جهة حاكمة على الشرعية والأداء. وبالقياس والمقارنة، فإن شمال غربي سوريا هو الأفضل في هاتين الناحيتين من باقي الحكومات الأخرى. وسؤال الشرعية لا يعني السكان كثيراً بقدر ما يعنيهم الأداء، وبما أنهم خارج صناعة القرار فهم يقارنون بين المنطقتين، ويرون أن الفساد والاحتكار المركزي في منطقة الهيئة أفضل من الفساد والاحتكار متعدد المراكز في مناطق الجيش الوطني.

الواضح أنه لا يمكن مقارنة التنظيم ونمط الحياة في شمال غربي سوريا الآن، بما كان عليه الوضع قبل 4 أعوام. فمناطق الجيش الوطني تتجه بحسب التسريبات نحو التنمية والحوكمة المركزية بعيداً عن التشتت، وهي مرحلة بدأت تظهر مؤشراتها بإنهاء تدخل الهيئة في المنطقة، وتعزيز حضور الحكومة السورية المؤقتة، والتي يجري الآن نقاش بشأن رئيسها الجديد.

وعلى الرغم من استياء سكان مناطق الجيش الوطني من الفساد والفشل المسيطر على معظم الفصائل وتحولها للتجارة والربح والاحتكار، يبقى هنالك تمايز واضح بين الفصائل المستحدثة، والأصيلة مثل الجبهة الشامية وجيش الإسلام وحركة التحرير والبناء (تجمع فصائل المنطقة الشرقية)، فهي فصائل ما زالت تملك هامشاً من القرار الوطني، ووعياً عسكرياً وسياسياً وبنى مجتمعية متداخلة وهيكلية قائمة على مجلس قيادة أو شورى، ويمكن أن يبنى عليها جيشاً سورياً وطنياً فعلياً.

يظهر للزائر الغريب لمناطق هيئة تحرير الشام وجود حكومة فعلية، لكن ملف النازحين الذين يقدر عددهم بأكثر من مليونين يعيشون في 1250 مخيماً، وملف التعليم، تبقى تحديات صعبة الحل. كما أن الجولاني لم يصل لمبتغاه في مسألة إزالة تصنيف “الإرهاب” عن فصيله، لكنه في الوقت ذاته هو الفصيل الأكثر جهوزية للتغيير بالوكالة، والأكثر قدرة على ضبط المنطقة أمنياً، والأقوى عدة وعتاداً على الدفاع أو الهجوم.

تفتقد منطقة شمال غربي سوريا لمنظومة حوكمية وبنية تحتية كافية لتحويلها إلى منطقة صناعية وزراعية، رغم افتتاح المناطق الصناعية وإنشاء معامل متوسطة وكبيرة. إلا أن هذا الواقع يمكن تغييره في حال منحت تركيا المنتجين شهادات منشأ تأهل البضائع للتصدير، مما يعني مزيداً من المعامل والحقول والإنتاج والعمالة، ودورة اقتصادية كاملة تتوسع مع مرور الزمن، وقد تصل لمرحلة استقطاب التجار والصناعيين من مناطق السيطرة الأخرى مثل النظام و”قسد”.

انعكس الانخفاض الحاد في المساعدات الدولية على حياة نصف السكان في شمال غربي سوريا، ومن المرجح أن تزداد الفجوة بين الاحتياجات والمساعدات بعد انتهاء حرب غزة، إذ ستصب أموال المساعدات لتدارك الكارثة الحاصلة في القطاع المدمر، ولذلك تسارع تركيا والجهات المحلية الحاكمة لإخراج المساعدات من المعادلة والتركيز على نهوض المنطقة بنفسها.

أما فيما يتعلق بالناحية الأمنية، فلا بد أن تحافظ السلطات الحاكمة على التوازن الدقيق بين توفير الأمن وتجنب الاستبداد، في تعاملها مع المعضلات الأمنية التي تواجهها.

من الصعب فهم الديناميكيات المعقدة الكامنة في إدارة هياكل الحوكمة وسط الصراعات طويلة الأمد، ويزداد التعقيد في الحالة السورية بسبب تدخل قوى إقليمية ودولية في المسارات العسكرية والسياسية، كما يؤدي التنافس على الموارد المحدودة إلى تفاقم الصراعات وإعاقة الحكم الفعال. ورغم حركات الإصلاح التي تظهر كل فترة، إلا أن المنطقة المؤهلة لاستقرار طويل الأمد، مؤهلة أيضاً لعملية تغيير شاملة في أدنى الهرم، وذلك بتفعيل الانتخابات ومشاركة الجميع في صنع القرار وتفعيل دور النقابات والمجتمع المدني، وتدارك أخطاء الماضي، والقضاء على الفساد… من شأن ذلك كلّه، أن يُنضج ثمرة سياسية، ستكون جاهزة للقطف حين يتبلور حل حقيقي لسوريا.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version