الأربعاء 18 جمادى الأولى 1446هـ

ربما لم يكن ليخطر على بال أحد أن عنوان الرواية الفائزة بأهم جائزة أدبية كندية عام 2021 “يا لها من جنة غريبة!” قد يكون توصيفا مناسبا لتقرير حكومي يرصد ظاهرة مغادرة المهاجرين للبلاد التي لطالما مثّل بلوغها حلما للملايين.

التقرير الصادر في فبراير/شباط 2024 تحت عنوان “هجرة المهاجرين: نتائج قاعدة بيانات الهجرة الطولية” عكف معدوه على دراسة مجموعة ضخمة من المعلومات المتعلقة بالمهاجرين الذين قدموا إلى البلاد منذ ثمانينيات القرن الماضي، ليخلصوا إلى نتيجة مفادها أن أكثر من 15% من مجموع المهاجرين بين عامي 1982 و2017 غادروا كندا، لا سيما خلال السنوات الأولى من قدومهم.

تقرير آخر صادر عن معهد المواطنة الكندي في أكتوبر/تشرين الأول 2023 يشير إلى تزايد ظاهرة الهجرة العكسية التي بلغت ذروة تاريخية بين عامي 2017 و2019، إذ وصلت إلى مستويات أعلى بنسبة 31% من المتوسط التاريخي.

كما تظهر بيانات رسمية -نشرتها وكالة رويترز- أن ما بين 80 إلى 90 ألف مهاجر غادروا كندا بين عامي 2021 و2022، في حين غادر نحو 42 ألف شخص في النصف الأول من عام 2023.

الهجرة العكسية تعد مؤشرا مقلقا بالنسبة لمستقبل الهجرة في كندا (غيتي)

تحديات السكن

أحد هؤلاء المغادرين كان نظمي دهني المواطن السوري الذي قدم إلى كندا عام 2017 وغادرها بعد بضع سنوات، بعد أن حقق أحد أهدافه بالحصول على الجنسية الكندية.

“لكن هذا ليس كل شيء” يقول دهني للجزيرة نت، موضحا أن عديدا من الأسباب دفعته إلى اتخاذ قرار المغادرة، ففي مجتمع متعدد المشارب والثقافات أنت بحاجة إلى بيئة داعمة أو مجتمع مساند، وهو ما لا يتوفر بالشكل الكامل في المهجر الجديد.

ويضيف دهني أن العديد من الصعوبات اعترضت طريقه، فالعثور على منزل للإيجار من أصعب المشكلات لأن شروط التأجير صعبة جدا وكلفة الإيجار في حد ذاتها ضخمة، لا سيما للقادم الجديد، كما أن إيجاد فرصة عمل مجدية أمر شبه مستحيل في البداية ولفترة ربما تمتد لسنوات.

معضلة العمل

تخرج نظمي دهني من تخصص الهندسة المعمارية في الجامعات السورية، ثم عمل مهندسا في شركة استشارية في دولة خليجية لـ14 عاما، لكنه حين قدم إلى كندا لم يستطع الاستفادة من خبراته السابقة في سوق العمل.

وجد دهني نفسه مضطرا لتعديل الشهادات والحصول على ترخيص العمل، أو تعديل المهنة وتغييرها بالدراسة في كندا، أو بالحصول على خبرة عمل كندية وهو “شيء شبه مستحيل”، يقول دهني متأسفا.

بون شاسع بين الحلم الكندي كما تروجه وكالات الهجرة والواقع الفعلي لحياة المهاجرين (شترستوك)

وأمام هذا الواقع، عمل دهني في التجارة والتوصيل وكعامل بناء، ليصل إلى نتيجة أنه عند تساوى المصروف مع الدخل فقد حان القوت للرجوع السعودية، حيث يقيم أهله الذين يتقدمون في السن، وكي يتمكن من تنشئة بناته الثلاث بعيدا عن صعوبات التشظي بين عالمهم الأساسي وعدم القدرة على الاندماج الكامل مع المجتمع الجديد والتأثر بقيم الفردانية والخصوصية المفرطة والابتعاد عن العائلة في الغرب.

قرار المغادرة الصعب لم ينفرد به نظمي وحده، إذ يروي للجزيرة أن أكثر من 14 عائلة غادرت من مدينته ميلتون وحدها منذ بداية هذا العام، في حين تختزن مجموعات على فيسبوك، مثل “العائدون من كندا إلى مصر”، كثيرا من تجارب المغادرين وأسئلتهم وحيرتهم أمام تحديات الواقع الجديد.

وليس الأمر مرتبطا بالشرق الأوسط وحده، فعشرات مقاطع الفيديو على موقع يوتيوب تروي تجارب الهنود الذين فضلوا العودة إلى بلادهم والتخلي عن كندا، بعد أن تبين لهم البون الشاسع بين الحلم الكندي كما تروجه وكالات الهجرة والواقع الفعلي لحياة المهاجرين في مدن مثل تورونتو وفانكوفر.

 

عدم القدرة على الاندماج الثقافي في المجتمع الكندي يدفع بعض العرب لمغادرة البلد (شترستوك)

تحديات الثقافة والاندماج

من جانبه، يحكي إبراهيم محسن للجزيرة نت جانبا آخر من التجربة الكندية، فمهندس المعلوماتية اليمني الذي قدم إلى كندا عام 2017 يوضح أنه رغم المصاعب التي يواجهها أي قادم جديد، فإن كندا قدمت له الدعم المادي والتعليمي والاجتماعي، الذي أعانه على إكمال دراسته الجامعية في مجال أمن المعلومات، ليعمل بعدها في أكبر شركة استشارية في العالم بمقرها في تورنتو.

ووفقا لموقع إنديد الكندي المختص بالبحث عن الوظائف، فإن العمل في مجال المعلوماتية من الأكثر طلبا في سوق العمل الكندي، حيث يبلغ متوسط ما يتقاضاه مهندس البرمجة قرابة 89 ألف دولار كندي في السنة.

ورغم هذا، فقد غادر محسن بعد الحصول على الجنسية الكندية التي كانت طموحه الأكبر، إثر عثوره على فرصة في مكان آخر بدخل مادي أفضل، موضحا أن هذا من أكبر الأسباب التي تدفع المهاجرين إلى مغادرة كندا نتيجة ارتفاع تكلفة المعيشة والسكن، لا سيما بعد جائحة كوفيد-19.

العامل الثقافي يبدو حاضرا في حديث محسن أبي الأطفال الثلاثة للجزيرة نت، إذ يؤكد أن مما يدفع البعض إلى التفكير الجدي في المغادرة ما يصفه بـ”التطرف” في نشر ثقافة المثلية الجنسية في المدارس العامة وفي سن جد مبكرة، إلى جانب عدم القدرة على الاندماج الثقافي في المجتمع الكندي وضعف الأنشطة الثقافية لضعف الجالية العربية مقارنة بالجاليات الأخرى.

الحكومة الكندية تولي أهمية فائقة لملف الهجرة حيث شكل المهاجرون 90% من نمو القوى العاملة الكندية (الفرنسية)

مؤشر مقلق

عديد من الاستبيانات والتقييمات تضع كندا في مقدمة أفضل الدول للهجرة على مستوى العالم، حيث يصنف استطلاع قام به معهد غالوب الأميركي الشهير كندا على رأس قائمة الدول المرحبة بالمهاجرين عام 2021.

أحد العوامل المرغبة في الهجرة إلى كندا تتمثل في سياسات البلاد الساعية لاستقطاب المهاجرين ودعمهم، ووفق أرقام هيئة الإحصاء الكندية، فإن البلاد تستقبل عادة ما بين 200 و300 ألف مهاجر كل عام، بحيث إنه عام 2021 ولد أكثر من واحد من كل 5 كنديين خارج كندا، غير أن هذه الأرقام ستتزايد مع خطة الهجرة 2024-2026 التي تضمنت قبول 500 ألف وافد جديد كل عام تقريبا.

وتولي الحكومة الكندية برئاسة جاستن ترودو أهمية فائقة لملف الهجرة، حيث شكل المهاجرون 90% من نمو القوى العاملة الكندية و75% من النمو السكاني عام 2021، في حين تشير بعض التقديرات إلى أن الحفاظ على مستوى المعيشة الحالي أو زيادته في كندا يحتاج إلى نصف مليون مهاجر سنويا.

ولذلك وبالنظر إلى كل ما سبق، فإن الهجرة العكسية رغم أنها لا تمثل ظاهرة كبيرة حتى الآن، فإنها تشكل مؤشرا مقلقا بالنسبة لمستقبل الهجرة في البلاد، وفقا لمروان علي الباحث الكندي في شؤون الهجرة.

استقبال كندا لأعداد غير مسبوقة من المهاجرين لم يترافق مع تهيئة بنى تحتية كافية لاستيعابها (رويترز)

عوامل تضغط على القادمين الجدد

ويضيف علي للجزيرة نت أنه من واقع تجربته بوصفه ناشطا في دعم القادمين الجديد خلال العقد الماضي، فإن عديدا من التحديات الجدية برزت أمام هذه الفئة خلال السنوات الأخيرة، وفي مقدمتها التضخم الذي شهد تصاعدا كبيرا حتى بلغ معدله السنوي 5.7% في فبراير/شباط 2022 وهو الأعلى منذ أغسطس/آب 2009.

سوق العقار الكندي بدوره يعاني عاصفة غير مسبوقة، وتُظهر بيانات موقع “أورينتالز” للعقارات وشركةِ الأبحاث “أوربانايشن” الصادرة في أغسطس/آب 2023 أنّ معدّل ​​الإيجار الشهري المطلوب في الشهر السابق بلغ 2078 دولارا، أي أعلى تقريبا بـ9% من الإيجار في الشهر نفسه من عام 2022.

كما أن استقبال كندا لأعداد غير مسبوقة من المهاجرين لم يترافق مع تهيئة بنى تحتية كافية لاستيعابها، مما أثر على قدرة القادمين الجدد على الوصول إلى خدمات كتعليم اللغة الإنجليزية لغير الناطقين بها عبر منظمات الدعم المجتمعي، وهو ما ينعكس على قدرتهم على الدخول في سوق العمل على سبيل المثال.

هذه العوامل وغيرها تمثل ضغطا كبيرا على القادمين الجديد، خاصة أن طبيعة الأعمال التي ينخرطون بها في سنواتهم الأولى تكون غالبا من ذوات الدخل المنخفض، مما قد يدفع البعض إلى المغادرة.

وفي النهاية يرى علي أن كندا تتمتع بكثير من الميزات وأن السلطات ومنظمات المجتمع المدني تقدم عديدا من وسائل الدعم، لكن هذا لا يعني أن كندا هي “الجنة الموعودة”.

ولذا فإن الاستمرار فيها يرتبط بمجموعة من العوامل، منها قدرة القادم الجديد على تطوير آليات التكيف، وسقف توقعاته من البلد الجديد، بجانب الخلفية الثقافية والمهنية والهدف الرئيس من الهجرة هل هو مرتبط بعوامل اقتصادية أم بالرغبة في الحصول على الجنسية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version