الأربعاء 18 جمادى الأولى 1446هـ

فجّر مقتل 7 من عمال الإغاثة التابعين للمطبخ المركزي العالمي بغارة إسرائيلية وسط قطاع غزة ردودا غاضبة، مما دفع الرئيس الأميركي جو بايدن لإجراء مكالمة هاتفية وصفت بالأصعب مع رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، حيث هدد بايدن بتغيير التعامل الأميركي مع الحرب على غزة الذي اتصف بالدعم الكامل للعدوان سياسيا وعسكريا.

ووجه بايدن ما وصف بأنه أقوى توبيخ أميركي لإسرائيل منذ بدء الحرب على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وجاء في غمرة خلافات أميركية إسرائيلية حول إدارة الحرب وأهدافها، ووصف بايدن خلالها نتنياهو بأنه يضر إسرائيل أكثر مما يساعدها.

ثم جاء الموقف الأميركي المضطر للتخلي عن استخدام حق النقض (الفيتو) ضد قرار بمجلس الأمن ليدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار بغزة.

وفي غمرة انتقادات لبايدن من يساريي الحزب الديمقراطي، وتراجع شعبيته في حملة انتخابات الرئاسة الأميركية، وبعد خلافات أميركية إسرائيلية حول اجتياح رفح وصفقة الأسرى وتدفق المساعدات الإنسانية لقطاع غزة ولخطة ما بعد الحرب، جاء القصف الإسرائيلي لقافلة المطبخ العالمي المكونة من 3 سيارات ليكون القشة التي تقصم ظهر البعير.

دعونا نتعرف على طبيعة المواقف الأميركية، وهل تشكل تغييرا حقيقيا في موقف واشنطن من الحرب؟ وما تأثيرها على مسارها فيما يتعلق بإدخال المساعدات وصفقة وقف إطلاق النار واجتياح رفح؟

ازدواجية المعايير

بدا قصف القافلة الإنسانية كقشة بالفعل أمام ما سببه العدوان الإسرائيلي على غزة من استشهاد أكثر من 33 ألف فلسطيني خلال 6 شهور، وهو ما كشف ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع الضحايا، فضلا عن استهتار حكومة الاحتلال بقيمة الحياة البشرية واستهتارها بالقيم الإنسانية وبقوانين الحرب التي تقر بحق حماية المدنيين والجهات الإنسانية التي تقدم لهم الخدمات.

ومن خلال ما صدر عن البيت الأبيض ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وما تم تسريبه عقب المكالمة، فقد تركزت المطالب التي قدمها بايدن لنتنياهو خلال المكالمة على اتخاذ “سلسلة من الخطوات المحددة والملموسة والقابلة للقياس” متمثلة في:

  • زيادة هائلة في إدخال المساعدات الإنسانية لغزة، وفتح معابر إضافية، ووقف استهداف العاملين في المجال الإنساني.
  • خفض العنف ضد المدنيين.
  • تمكين المفاوضين الإسرائيليين من التوصل إلى اتفاق مع حماس دون تأخير لإعادة الرهائن الإسرائيليين إلى ديارهم.
  • طلب تقرير مفصل عن مقتل عمال الإغاثة، ودعوة نتنياهو لتحقيق فوري يتضمن محاسبة شاملة للمسؤولين عن الحادثة.
بايدن (يسار) هدد نتنياهو بتغيير التعامل الأميركي مع الحرب على قطاع غزة (رويترز)

وأكد بايدن أنه “إذا لم نر أي تغييرات في سلوك الجيش الإسرائيلي تجاه المدنيين، فموقفنا بشأن غزة سيتغير”.

وحسبما نقل من مضمون المكالمة، فإن بايدن قال لنتنياهو إن “العالم تحوّل ضد إسرائيل، وإن حلفاء لواشنطن أبلغوها بتحوّل في سياستهم”.

تمثل هذه العبارة مربط الفرس وتظهر دوافع الموقف الأميركي، إذ إن المطالب ركزت على الجانب الإنساني لأنه هو الذي يتسبب في تزايد السخط على إسرائيل في الغرب شعبيا ورسميا، بل يهدد بفقدانها الدعم السياسي.

استجابة وإجراءات

وفي رد فعل سريع، وافقت إسرائيل على دخول 500 شاحنة مساعدات لغزّة يوميا، وفتح معبر بيت حانون (إيرز) لأول مرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وزيادة المساعدات الأردنية عبر معبر كرم أبو سالم جنوب قطاع غزة، وكذلك فتح ميناء أسدود للمساعدة في تدفق المساعدات، بالإضافة إلى ذلك الميناء البحري الذي قرر الأميركيون إنشاءه بغزة، وذلك دون التطرق لزيادة تدفق المساعدات من معبر رفح مع مصر. وغير أن هذه التعديلات تتم تحت التحكم الإسرائيلي في دخول المساعدات.

وفي هذا السياق، نقل موقع “والا” العبري عن مصادر مطلعة أن بايدن أبلغ نتنياهو أن هناك حاجة لوقف القتال في غزة من أجل السماح باستئناف جهود المساعدات الإنسانية، لكن نتنياهو قال إن هناك إجراءات جديدة ستكون على الأرض، وبالتالي لن تكون هناك حاجة لوقف القتال، وإن وقف القتال يجب أن يأتي مع اتفاق لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وهذا يعني أن نتنياهو لم يتجاوب مع كل المطالب الأميركية، خصوصا تلك المتعلقة بوقف النار، واستمرار ربطها بمفاوضات الأسرى.

كما أعلنت إسرائيل أن التحقيق الداخلي الذي أجرته في مقتل موظفي الإغاثة خلص إلى “حدوث خطأ في تحديد الهوية وأخطاء في اتخاذ القرار”، وقررت تنحية قائد لواء الناحال وتوبيخ قائد المنطقة الجنوبية وضباط كبار آخرين. وهذا يشير إلى أن إسرائيل لم تجب على تعمد قتل موظفي الإغاثة، فجيشها قصف ثلاث سيارات لهم بثلاث قذائف متتالية، رغم أنه لديه إحداثيات تحرك هذه السيارات التي تضع علامات واضحة على سقوفها.

كما أنها بذلك أسدلت الستار على جريمة قتل موظفي المساعدات الغربيين ومعهم فلسطيني، ومن قبل قتلت 176 موظفا من الأمم المتحدة في هذه الحرب، وذلك دون أن يتعرض للمساءلة مسؤولوها السياسيون والعسكريون الأساسيون، وعلى رأسهم نتنياهو ووزير دفاعه أولاف غالانت، الذين يعطون أوامر إبادة الشعب الفلسطيني.

كما أن إسرائيل بهذا القرار جنّبت نفسها بالتواطؤ مع بايدن أن تتعرض لعقوبات أو حتى مطالبات بتحقيق مستقل من قبل الدول التي قُتل مواطنوها مثل بريطانيا وكندا.

وفي السياق نفسه، قرر نتنياهو إيفاد كل من رئيس الموساد ديفيد برنياع ورئيس الشاباك رونين بار، والمسؤول عن الأسرى والمفقودين في الجيش الإسرائيلي الجنرال نيتسان ألون، لعقد اجتماعات بخصوص صفقة الأسرى في العاصمة المصرية القاهرة.

تقييم المطالب والاستجابات

  • أولا: لم تتطرق المطالب من قريب أو بعيد لوقف العدوان على غزة، وهو المطلب العالمي، واقتصر الأمر على الدعوة لإنجاز اتفاق تبادل أسرى ضمن وقف نار مؤقت وليس دائما، مع الاستمرار في تحميل حماس المسؤولية عن عدم التوصل للاتفاق حتى الآن! وهذا ما يعبر بالضبط عن الموقف المستمر للإدارة الأميركية بدعم استمرار العدوان.
  • ثانيا: لم تتطرق المطالب لوقف خطط اجتياح رفح، وجاءت المطالبة بخفض العنف ضد المدنيين عامة، وهي تعني عدم معارضة اجتياح رفح، واشتراط ذلك بحماية المدنيين. وربما يؤدي التوصل لاتفاق وقف النار وعودة اللاجئين إلى الشمال إلى تحقيق جزء مهم من الشرط الأميركي لمهمة اجتياح رفح.
  • ثالثا: لم تتضمن المطالب أي تلويح بوقف تزويد الاحتلال الإسرائيلي بالأسلحة أو حتى فرض قيود على تصديرها له، وهو مطلب متزايد في صفوف الحزب الديمقراطي وفي العالم، وجاءت بعد قرار أميركي حديث بتزويد الاحتلال بالأسلحة والذخائر اللازمة لاستمرار الحرب!

وحينما سُئل الرئيس الأميركي جو بايدن عما إذا كان هدد بفرض حظر على الأسلحة على إسرائيل خلال محادثته مع نتنياهو، أجاب “طلبت منهم أن يفعلوا ما يفعلونه”.

  • رابعا: الموقف لم يتضمن أي إدانة لإسرائيل لارتكابها مجزرة ضد موظفي المطبخ المركزي العالمي، ولا للمجازر الإسرائيلية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، بل إن هذه المطالب الغاضبة جاءت فقط بعد مقتل 7 غربيين، دون أن يحركها مقتل 33 ألف مدني فلسطيني.
  • خامسا: لم تحدد إدارة بايدن ما الخطوات التي ستتخذها في حالة عدم التزام إسرائيل بالمطلوب منها، ولا المعايير التي ستقيس بها التزامها بها.
  • سادسا: الاستجابة الإسرائيلية جاءت لتنفيس الضغوط الأميركية بالدرجة الأساسية، ولامتصاص النقمة العالمية على مجازر الاحتلال والتي لم تتوقف قبلها أو بعدها، كما أن إرسال وفد التفاوض للقاهرة لا يعني أن نتنياهو قرر عقد صفقة أسرى سريعا كما تريد واشنطن، فهو لم يوافق على السماح للغزيين النازحين بالعودة للشمال قبل أن يرسل وفده، ولا يعلم ما الصلاحيات التي أعطاها للوفد.

الخلاصة

ومن خلال الملاحظات السابقة، نخلص إلى أنه لا يوجد تغيير جوهري في الموقف الأميركي الداعم لاستمرار الحرب، لكنه يريد أن تدار بخفض كلفتها على المدنيين، التي تؤثر بشكل مباشر على شعبية الرئيس بايدن في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام، وكذلك امتصاص الغضب الشعبي والرسمي لدى الغرب، والذي أصبح بالفعل يهدد بتفكيك الدعم لها.

وهذا يعني استمرار الحرب والاستعداد لاجتياح رفح، مع تأجيله إلى حين استكمال الاستعدادات الإسرائيلية له سواء من ناحية استدعاء الاحتياط الإسرائيلي أو بإنجاز الخطط والترتيبات لإخراج النازحين وعددهم نحو 1.5 مليون فلسطيني من رفح.

وستشهد المرحلة المقبلة تنفيسا عن المدنيين بالسماح بالمزيد من المساعدات دون وجود ضمانة لاستمرارها بالكثافة المطلوبة، ودون وجود تعهد إسرائيلي بعدم استهداف المدنيين الذين يهرعون إلى استلامها.

طموح نتنياهو بالبقاء في الحكم سيدفعه للاستمرار في تعطيل اتفاق تبادل الأسرى (الأوروبية)

وهذا بالنتيجة سيخفف الضغوط على الحاضنة الشعبية المؤيدة لحماس، ولكن عمليات الإخلاء قد تهيئ الأجواء بشكل أفضل للاحتلال لاستهداف المقاومة، وهو ما تعتقد واشنطن أنه الطريقة المثلى لمحاربة حماس، ولكن نتنياهو يعتبر أن استمرار استهداف المدنيين وتجويعهم وتهجيرهم يشكل ضغطا أكبر على المقاومة لإضعافها وربما دفعها للاستسلام!

كما أن طموح نتنياهو بالبقاء في الحكم سيدفعه إلى الاستمرار في تعطيل اتفاق تبادل الأسرى، والإصرار على اجتياح رفح دون استكمال متطلبات الإدارة الأميركية، مما سيجعله على خلاف مع موقف بايدن الذي يريد توسيع وقف إطلاق النار. وفي حال التوصل لاتفاق وقف النار، فإنه سيتم تطبيق المرحلة الأولى منه، مع احتمال تعثر أو تأجيل المرحلتين الثانية والثالثة، واحتمال استئناف الحرب بشن الهجوم على رفح.

ويعتقد بايدن من خلال تقارير أجهزة استخباراته أن نتنياهو فشل في مهمة إنهاء حماس خلال المهل السابقة التي أعطاها إياه، ولم ينجح في تحرير الأسرى -وبينهم أميركيون- بالقوة، وأن عليه بالتالي الموافقة على وقف إطلاق نار يؤدي للإفراج عن أسرى إسرائيليين، مع وقف استهداف المدنيين والتركيز على المقاومة في نهاية المطاف بهدف إضعافها.

ويرى الرئيس الأميركي أن ذلك سيهيئ الأجواء لتسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية بغطاء عربي، والسماح بترويج الدولة الفلسطينية وانتزاع مواقف عربية جديدة من التطبيع بما يشكل إنجازا يرفعه في مواجهة خصمه دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية.

ويبدو أن مهمة بايدن في الضغط على نتنياهو لن تكون سهلة، في ظل سعي الأخير للبقاء أطول مدة ممكنة في الحكم وما يعانيه من توسع ضغوط المعارضة الداخلية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version