الأثنين _3 _نوفمبر _2025AH

يتسارع المشهد الإعلامي العالمي بوتيرة غير مسبوقة، محدثاً تحولات جذرية في مفاهيم الاتصال وتقاطعاته مع الإعلام والتسويق. هذا التسارع أفرز قلقاً متزايداً لدى كثير من القيادات التنفيذية حول كيفية إدارة السمعة المؤسسية، وصون الصورة الذهنية في مواجهة الطوفان الرقمي والجماهيري المتشابك. وفي زاوية المشهد، يقف مدير الاتصال المؤسسي يصارع يوميات مثقلة بالمهام العاجلة، بينما تُفلت من بين يديه مشاريع كان يمكن أن تصنع بصمة مؤسسية فارقة. ومع تعدد «السكاكين» وتزايد النقد، يسقط الجمل الاتصالي، لتبدأ رحلة البحث عن «جمل» جديد قادر على تحمل الطعنات القادمة.

العمل الاتصالي لم يعد إنتاجاً فقط، بل مواجهة دائمة للتشويش الإعلامي وفقدان الثقة في زمن تضخمت فيه الشائعات، وتعددت المنصات التي تتطلب محتوى متكيفاً مع ذوق جمهورها وسرعة تفاعله. دخول الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة أضاف بعداً جديداً من التحدي، جعل القائمين على الاتصال بين مطرقة التطور وسندان اللحاق بالتقنيات المتسارعة. ولعل أحد أعقد التحديات غياب التناغم بين إدارة الاتصال وبقية الإدارات، ما يؤدي إلى تضارب في الرسائل وانعكاس سلبي على الصورة العامة للمؤسسة، فيتحول مدير الاتصال إلى «كبش فداء» لإخفاقات لا تخصه وحده. أما على الصعيد الداخلي، فإن ضعف التواصل مع الموظفين يؤدي إلى تآكل الولاء المؤسسي، إذ تُوجَّه معظم الجهود نحو الخارج وتُهمَل الجبهة الداخلية.

وتبقى الأزمات المفاجئة «القشة» التي قد تقصم ظهر البعير؛ إذ تختبر قدرة فرق الاتصال على سرعة الاستجابة، وحسن إدارة الرسائل الإعلامية في بيئة رقمية تفيض بالمعلومة لحظة بلحظة. وهنا يتكرر المشهد ذاته: مدير اتصال يندفع للتصريح أو التفاعل، فتتحول نيته الطيبة إلى أزمة جديدة، ويسقط الجمل مجدداً. ولكي لا نعيش دوامة «سقوط الجمال»، لا بد من إعادة هندسة منظومة الاتصال المؤسسي برؤية تقدّر دوره وتمنحه الأدوات الكفيلة بنجاحه. من أبرز الحلول إنشاء وحدات ذكاء اتصالي وتحليل بيانات على غرار تجربة Coca-Cola Content Factory، التي توظف الذكاء الاصطناعي لرصد التوجهات وتقييم التفاعل قبل اتخاذ القرار. كما يمكن استلهام تجربة Google في تعزيز الاتصال الداخلي الشفاف، وتجربة Toyota في بناء خطط استباقية لإدارة الأزمات. وكذلك الاطلاع على نموذج الأمم المتحدة UN Brand Manual الذي يعد من أبرز الأدلة التي توحد الخطاب الاتصالي عالمياً وضمان اتساق الرسالة عبر الزمن.

بقي القول بأنه لا يمكن للاتصال المؤسسي أن ينجو من “سكاكين” النقد ما لم يتحول من أداء وظيفي تقليدي إلى منظومة فكرية واستراتيجية متكاملة. فالقضية ليست فيمن “يسقط الجمل”، بل في غياب بيئة داعمة تُمكّن مدير الاتصال من إدارة الصورة والسمعة بذكاء واحتراف، وإن المؤسسات التي تُدرك أن الاتصال هو عقلها وضميرها الحي، هي وحدها القادرة على البقاء والتأثير. ولذا، فإن بناء وحدات ذكاء اتصالي، وتمكين القيادات الاتصالية بالتقنيات والتحليل والتدريب، ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية، كما أن الاتصال المؤسسي لم يعد مجرد أداة ترويج، بل بوابة الثقة والاستدامة، ومن دونها ستتكرر قصة الجمل الذي سقط… وسنظل نبحث عن جملٍ جديد.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version