الأربعاء _31 _ديسمبر _2025AH

بوصفها شواهد تاريخية تعكس أسلوب الحياة المكية عبر قرون متتالية؛ تمثّل الحارات والرواشين المكية أحد أبرز مكونات الهوية البصرية والعمرانية لمدينة مكة المكرمة، حيث تجسّد علاقة الإنسان بالمكان، في مدينة ارتبط عمرانها بتميز خصائصها الدينية والاجتماعية والمناخية.

وتأتي الجهود المبذولة للمحافظة على هذه العناصر وتوثيقها، وإعادة دمجها في مشاريع التطوير الحضري، ضمن مستهدفات رؤية المملكة 2030، الهادفة إلى حماية التراث وإبراز التنوع الثقافي.

وتتميّز الحارات المكية بطابعها الضيق والمتدرج، الذي أسهم في تلطيف المناخ، وتوفير الظلال، وتعزيز التفاعل الاجتماعي بين السكان، فيما شكّلت الرواشين الخشبية عنصرًا معماريًا فريدًا، جمع الوظيفة والجمال، وأسهم في تنظيم الإضاءة والتهوية، مع الحفاظ على الخصوصية.

ويبرز عدد من الأحياء المكية التاريخية التي لا تزال تحتفظ بملامح الأزقة والرواشين، من أبرزها حارة الشبيكة، وحارة المسفلة، وأجياد، وجرول، وحارة الباب، والمعابدة، إضافة إلى أزقة تاريخية معروفة، شكّلت نسيجًا عمرانيًا متماسكًا يعكس روح مكة القديمة.

وتشير تقديرات مختصين في العمارة التراثية إلى أن ما يزيد على 60% من المباني السكنية التاريخية في مكة المكرمة، كانت تحتوي على رواشين خشبية، صُنعت في الغالب من أخشاب مستوردة عولجت بطرق تقليدية، وأسهمت في تحسين التهوية الطبيعية وخفض درجات الحرارة داخل المباني، إلى جانب دورها الجمالي الذي منح واجهات المنازل طابعًا مميزًا.

ويؤكد معماريون أن الرواشين تمثل نموذجًا مبكرًا لمفاهيم العمارة المستدامة، ما يجعل استلهامها في المشاريع الحديثة إضافة نوعية تعزز الهوية البيئية والبصرية للمدينة.

وشهدت مكة المكرمة خلال الأعوام الماضية تنظيم عدد من المعارض الفوتوغرافية المتخصصة في توثيق الحارات والرواشين المكية، من بينها معارض أقيمت في مراكز ثقافية وجامعية، إضافة إلى ورش عمل توثيقية ومعمارية نُظّمت بالتعاون مع جهات ثقافية وأكاديمية، وشارك فيها مختصون في التراث والعمارة والتصوير؛ بهدف توثيق المباني التاريخية، ورصد التحولات العمرانية، ورفع الوعي بأهمية الحفاظ على الهوية المكية.

وتضمنت هذه الورش برامج تدريبية في التوثيق المعماري، والرسم، والتصوير، وأساليب الترميم، وأسهمت في إعداد كوادر شابة مهتمة بالتراث العمراني.

وتأتي هذه الجهود ضمن مشروع الهوية المعمارية لمكة المكرمة، الذي يهدف إلى ترسيخ طابع عمراني مستوحى من العمارة المكية التقليدية، وفي مقدمتها الحارات والرواشين، ودمجها في مشاريع التطوير الحضري الحديثة، بما يحقق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، ويحافظ على الطابع الروحي والبصري للمدينة.

ويستند المشروع إلى توجيهات تنظيمية ومعمارية تُعنى باستخدام العناصر التراثية في الواجهات والتصاميم، وتطبيقها في المناطق التاريخية ومحيط المسجد الحرام، بما يسهم في تعزيز المشهد الحضري، وتحسين جودة الحياة.

ويعد توثيق الأزقة والرواشين المكية توثيقًا لذاكرة المكان، وليس للمباني فقط، إذ يعكس أنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي شكّلت هوية مكة عبر العصور، ويعزز حضور هذه الهوية في المشاريع التطويرية الحديثة، إضافة إلى كونها عنصر جذب مهم للسياحة الثقافية، حيث تسهم في تنويع المنتج السياحي، وزيادة مدة إقامة الزوار، وتعزيز الاقتصاد الثقافي والإبداعي، بما ينسجم مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 في تنمية القطاعات غير النفطية.

ويرى مختصون أن مواصلة توثيق الحارات والرواشين، وإعادة إحيائها ضمن مشاريع التطوير الحضري، تمثل خطوة إستراتيجية نحو مدينة تحترم تاريخها، وتواكب تطلعاتها المستقبلية، وتقدّم نموذجًا عمرانيًا متوازنًا يجمع بين قدسية المكان وثرائه الحضاري.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version