منذ أن انتقلت للحقل الأكاديمي في 2018، كمحاضر في قسم الإعلام في إحدى الجامعات السعودية أصبحت تطاردني تهمة بأنني “أكاديمي”، وكأن هذه الكلمة انتقاص من قيمة التجربة الإعلامية الطويلة التي بدأتها منذ نعومة أظفاري في 1998م وحتى 2018م واستمررت خلال عملي كصحفي في العواصم الأوروبية بين 2018-2025م، والحقيقة أنني لا أتنصل من هذا الوصف، لكنني في الوقت ذاته أرفض أن يكون “الانتماء الأكاديمي” نقيضًا أو خصمًا للممارسة العملية، بل إنه بفضل العمل الأكاديمي والخبرة المهنية ككل فقد تشكلت وصقلت شخصيتي وعمقت تجربتي في الميدان الإعلامي محليا ودوليا، حيث التحديات اليومية، القرارات السريعة، وقيادة الفرق في بيئات عمل واقعية، متغيرة، ومليئة بالتحديات.
لقد بدأت من الميدان الإعلامي كصحفي في بلاط الصحافة، وفي نفس الوقت كاتب محتوى في إحدى الجهات الحكومية، لقد وجدت في العمل المهني روحًا تصقل المهارات وتبني الرؤية الإعلامية، أما الأكاديمية، فهي بالنسبة لي ليست انقطاعًا، بل امتدادا، فهي الأفق الذي يجعل من التجربة أكثر عمقًا، ومن الممارسة أكثر وعيًا؛ ولذا فالأكاديمية لا تسجنك خلف المراجع بل تدعوك لفهم التجارب، تفكيكها، واستخدامها لتحسين الأداء، لا لاستبداله.
وهنا لا بد من الإشارة إلى نقطة مركزية وهو أننا نرى اليوم أن هناك فصلا حادا بين الأكاديمي في أقسام الإعلام والمهني في الإعلام، وهو فصل مُصطنع، موروث من أنظمة تعليمية تقليدية ترى في الجامعة كيانًا نظريًا معزولًا، وفي المهنة تطبيقًا بلا جذور نظرية، لكن التجربة المعاصرة، لا سيما في دول تقود تحولًا شاملًا كالسعودية في ظل رؤية 2030، أثبتت أن التقاطع بين المسارين ليس ممكنًا فحسب، بل ضروريا.
إن في البيئات الإعلامية المتقدمة اليوم لم يعد هناك مجال لهذا الفصل القديم بين “من يُدرّس” و ”من يُمارس” لا سيما وأن العالم يحتاج اليوم إلى من يفهم، ويُطبّق، ويُحلل، ثم يعود ليُعلّم، ويصنع نماذج قابلة للنقل والتطوير، ولذا حينما يدرّس الأكاديمي فهو لا يستند فقط إلى النصوص، بل عليه استحضار حالات حقيقية من تجاربه. وحين يمارس المهني في مجال الإعلام عمله فهو يستفيد من أدوات التحليل والنقد الأكاديمي لتطوير الأداء والتخطيط الاستراتيجي، وهذا يؤكد إنه ليس هناك صراعًا بين الهويتين، بل هما خطين يسيران بمحاذاة بعضهما: أحدهما يزرع، والآخر يفسّر، وكلاهما يعمّق الآخر.
ومن هنا، فإن الاتهام بكوني “أكاديميًا”، لا يقلقني، بل أراه انعكاسًا لمجتمع بدأ يستوعب أهمية الجمع بين العلم والعمل. والرد ليس في التنصل من الصفة، بل في إثبات أن تكامل الأكاديمي والمهني هو المستقبل الحقيقي لصناعة المعرفة، وصناعة الأثر ولذا حين يدخل الأكاديمي قاعة محاضرات، فإن عليه عدم إلغاء نظريات جامدة بل رواية تجارب، وطرح أسئلة واستخدام أدوات التحليل التي تعلّمها، وعليه السعي لتطوير الفهم الجمعي بينيه وبين طلابه. وحين يمارس المهني دوره المهني الإعلامي فإن عليه الاستفادة من أدوات التفكير النقدي التي عززتها الأكاديمية، ولهذا لا أرى في الجمع بين الهويتين تشتتًا، بل تكاملًا، فالأكاديمية تفتح أفقًا لفهم أوسع، والمهنة تمدّ اليد للواقع.
بقي القول، إنه ربما آن الأوان لنكفّ عن ربط الأكاديمية بالانفصال عن المهنة أو التقليل من أحدهما، ولنتبنى فهمًا أعمق للهويات المهنية المركبة. فالمستقبل، بلا شك، ليس للمنعزلين في مكاتبهم أو للمندفعين وحدهم في الميدان، بل لأولئك الذين يعبرون بين العالَمين، ويصنعون من هذا العبور جسرًا للتأثير.
ـــ
صحفي وأكاديمي