الثلاثاء _30 _سبتمبر _2025AH

في عمق المملكة، حيث تسكن الذاكرة في تفاصيل التراث، وتتمازج الأصالة مع نكهة الأرض، تنبثق حكاية لا تشبه سواها؛ تصوغها المرأة القصيمية بيدها، فتجمع بين العراقة والإبداع، وتمزج عبق الماضي بتطلعات الحاضر. 

فبين نخيل باسق وصحراء مترامية، وموائد عامرة بالكرم، ارتسمت ملامح هوية غذّاها الطهي، وتحولت فيها المائدة إلى مرآة للثقافة وميدان لتفوق النساء، اللواتي صنعن من المطبخ فضاءً يروي قصة وطن ويتجدد مع كل جيل.

إرث ضارب في الجذور

ولم يكن الطهي في القصيم مجرد مهنة عابرة أو هواية جانبية، بل امتداد لحكايات الجدات في المجالس الطينية القديمة، حين كانت رائحة الحنيني والجريش تعبق في الأجواء، لتعلن عن كرم الضيافة ودفء اللقاء.

ومن بين ذلك التراث العريق، صعدت المرأة القصيمية لتصبح رمزًا للإتقان، تحافظ على سر النكهة وتضيف لمستها الخاصة، فتجعل من كل طبق قصيدة تُروى.

ولقد ارتبطت ذاكرة أهل القصيم بالمائدة التي لم تكن مجرد طعام، بل كانت انعكاسًا للهوية، حيث يجتمع أهل الحي حول قدرٍ يغلي بالحكايات قبل أن يغلي بالمرق. واليوم، تقف النساء في طليعة هذا المشهد، وقد تحول الطهي من ممارسة منزلية إلى صناعة راسخة، تدفع بعجلة الاقتصاد وتُعزّز الحضور السعودي في المحافل العالمية.

بالأرقام.. تفوق نسائي

الأرقام الصادرة عن تقرير الثقافة والترفيه الأسري لعام 2024 لم تترك مجالًا للشك: النساء هنّ المتفوقات في ممارسة فن الطهي؛ إذ بلغت نسبتهن 23% مقابل 19% للرجال، بل إن السعوديات تفوقن على السعوديين، والأجانب والأجنبيات، لتؤكد الأرقام أنّ المطبخ ليس حكرًا على أحد، لكنه في يد المرأة يتحول إلى إبداع متجدد.

أما القصيم، فقد تربعت على العرش بنسبة 26%، متقدمة على سائر مناطق المملكة، ولم يكن هذا التفوق وليد الصدفة؛ بل نتيجة موروث ثقافي عميق، وبيئة اجتماعية جعلت من الطهي فنًا قائمًا بذاته.

فكما تفوقت القصيم في الزراعة والتعليم والتجارة، ها هي اليوم تثبت تفوقها في فنون المذاق والضيافة.

من الكليجا إلى اليونسكو

حين تذكر الكليجا، فإنك تستحضر القصيم مباشرة، فهذه الحلوى الشعبية التي صنعتها الجدات بحب، وصلت اليوم إلى قائمة التراث غير المادي في اليونسكو، لتصبح رمزًا عالميًا للهوية السعودية.

إنجاز لم يكن ليتحقق لولا أيادي النساء اللواتي طورن وصفاتها، وقدمنها للعالم بأسلوب عصري ينافس أفخر مصانع الحلويات.

حتى الأكلات الشعبية الأخرى، من الأقط إلى المطازيز، أعيد تقديمها بأساليب مبتكرة؛ فأصبح الأقط يُشبه قالب الشوكولاتة الفاخرة، وصار الحنيني يُقدَّم في مطاعم راقية على الطريقة العالمية، بينما ابتكرت الفتيات أصنافًا جديدة تمزج بين التراث والعصرية مثل كليجا البورليه وآيسكريم الحنيني، لتؤكد أن الهوية ليست جامدة، بل قادرة على أن تتجدد دون أن تفقد جذورها.

الاقتصاد المحلي.. نكهة متنامية

إسهام المرأة القصيمية لم يقتصر على الطهي في البيوت، بل تعداه إلى تنشيط الاقتصاد المحلي.

فمن مشاريع صغيرة، مروراً بمطاعم منزلية، إلى معارض موسمية، منصات اقتصادية باتت تحمل بصمة نساء القصيم. لقد أدركن أنّ الطهي ليس مجرد طعام يُقدَّم، بل صناعة تخلق فرصًا، وتعزز حضور المملكة في خريطة السياحة الثقافية والذوقية عالميًا.

وفي زمن رؤية 2030، باتت هذه المشاريع تتناغم مع الطموحات الوطنية، فتسهم في تمكين المرأة، وتضيف بُعدًا جديدًا للصناعات الإبداعية السعودية، حيث يتقاطع التراث مع الحداثة، ويُقدَّم الموروث بملامح جديدة تليق بالعصر.

القصيم.. مدرسة الطهي والإبداع

ومنذ عقود، اعتاد أهل القصيم أن يقولوا إن الطهي ليس مجرد وصفة تحفظ، بل روح تُنقل من جيل إلى جيل. ولهذا لم يكن مستغربًا أن تتصدر المنطقة قائمة الأكثر ممارسة للطهي.

فالمطبخ القصيمي ليس مكانًا لإعداد الطعام فحسب، بل فضاء تُصاغ فيه الذكريات، وتُحفظ فيه الهوية، وتُروى فيه القصص.

فحينما تمسك المرأة القصيمية بيدها ملعقة الطهي، فإنها لا تكتفي بخلط المكونات، بل تعجن معها الذاكرة وتبني المستقبل. ومن هذا المطبخ، خرجت قصص نجاح ألهمت نساء المملكة كافة، بأن الطهي يمكن أن يكون مشروعًا للحياة، ومصدر فخر، ورمزًا للهوية.

بين الأمس واليوم

في الأمس، كانت الجدات يحرصن على تعليم بناتهن سر النكهة؛ واليوم، تحرص الفتيات على مزج ذلك السر بروح العصر. وفي الأمس، كان المطبخ جزءًا من البيت؛ واليوم، أصبح جسرًا يصل المملكة بالعالم.

القصيميات، إذن، لم يحفظن التراث فحسب، بل جددنه وأضفن إليه، لتظل موائدهن شاهدة على أن الأصالة حين تلتقي بالإبداع، فإنها تصنع حكاية تتجاوز حدود المكان والزمان.

إنّ تفوق القصيم في فنون الطهي، وتصدر نسائها لهذا المشهد، ليس مجرد تفوق رقمي في تقرير إحصائي، بل هو انعكاس لتاريخ طويل من الأصالة والإبداع. فالقصيم اليوم، كما الأمس، تثبت أنّ المرأة ليست فقط حارسة المذاق، بل هي صانعة الهوية، ومجددة التراث، ومُلهِمة الأجيال.

رسالة إبداع وذاكرة وطن

وهكذا، يبقى المطبخ القصيمي شاهدًا حيًّا على أن الطهي ليس مجرد طعام يُقدَّم على المائدة، بل هو لغة هوية، ورسالة إبداع، وذاكرة وطن تُروى عبر الأجيال.

إنجاز أعربت آمنة الخليفة، عن فخرها واعتزازها به، مشيرة إلى أن ما ورد في تقرير الهيئة العامة للإحصاء يؤكد تميّز بنات القصيم في فنون الطهي وحصولهن على المرتبة الأولى على مستوى المملكة.

شغف ولمسات خاصة

وباعتبارها إحدى الطاهيات، قالت أنها تحمل بين يديها شغف المطبخ محاولة إضافة لمساتها الخاصة على فنون الطهي بالقصيم، معبرة عن فخرها بـ«كونها جزءًا من هذا التميّز الذي يعكس ذوقًا، وإبداعًا، وأصالةً متوارثة».

وتضيف الخليفة، في تصريحات لصحيفة «عاجل» الإلكترونية، أن زميلاتها الطاهيات يشتركن معها في هذا العطاء والإبداع، فـ«كل واحدة منا تضيف لمسة مختلفة لتشكّل لوحة مبهرة من فنون الطهي السعودية».

وتعهدت الخليفة بـ«مواصلة النجاح والتطور، لتصل هي وطاهيات القصيم إلى العالمية وينقلن تراث المملكة ونكهاته الأصيلة إلى كل مكان تشرق فيه الشمس».

في السياق نفسه، أشادت لجين الحميدان في تصريحات لصحيفة «عاجل» الإلكترونية، بـ«هذا الإنجاز» الذي قالت إنه «يعكس عمق الموروث الثقافي والمهارات المتجذرة في المجتمع القصيمي، ويمثل مصدر فخر وإلهام للمرأة السعودية في مختلف المناطق».

فـ«إسهام المراة القصيمية في فنون الطهي لم يقتصر على الجانب المنزلي، بل أسهم في تنشيط الاقتصاد المحلي من خلال المشاريع الصغيرة، والمطاعم المنزلية»، تقول الحميدان، مشيرة إلى أن فنون الطهي ساعدت على تعزيز الهوية الوطنية ورفع اسم المملكة في محافل الطهي الإقليمية والعالمية.

الأمر نفسه أشارت إليه أفنان العبيد، والتي قالت إن فنون الطهي في القصيم تراث يتجدد، مؤكدة أن فن الطهي يشكل جزءاً أصيلاً من الهوية الثقافية التي «ورثناها من أمهاتنا وجداتنا، حيث تعلمنا منهن أسرار المذاق وجودة الطهي».

إرث بلمسة عصرية

«إرث حافظن نساء القصيم من خلاله على الأصالة، وأضفن عليه لمسات إبداعية جعلت المطبخ المحلي أيقونة عالمية»، بحسب العبيد، التي قالت إنه «حتى الأكلات الشعبية أعيد تقديمها بأسلوب فاخر».

فـ«الأقط أصبح يُشبه قالب الشوكلاتة الفاخرة، والكليجا وصلت إلى قائمة اليونسكو كإرث غير مادي، ونافست مصانع الحلويات العالمية بفضل بنات القصيم المبدعات»، تضيف أفنان العبيد، مشيرة إلى أنه بينما الإبداع لا حدود له، ظهرت ابتكارات تمزج بين المذاق التراثي والعالمي مثل كليجا البورليه وآيسكريم الحنيني وغيرها.

وتختتم تصريحاتها لـ«عاجل»، قائلة: «بهذا يبقى المطبخ القصيمي شاهداً على هوية متجددة، تنقل للأجيال القادمة رسالة فخر واعتزاز، بأن الإبداع في الطهي لا ينتهي».

بدورها، قالت مضاوي السليمي، في تصريحات لصحيفة «عاجل» الإلكترونية، إن إبداع نساء القصيم في فنون الطهي، جعل إحدى مدن المنطقة تحجز مقعدًا لها ضمن شبكة اليونسكو للمدن المبدعة، في مجال فن الطهي.

تميز وصدارة عالمية

وأوضحت السليمي، أن تميز أطباق القصيم ونساء المنطقة في فنون الطهي، دفع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» إلى إدراج مدينة بريدة ضمن المدن المبدعة، في مجال فن الطهي، مما سينعكس على المملكة إيجابيًا، في ملف السياحة الثقافية بزيادة عدد الوافدين إلى المنطقة.

وطالبت بالاستفادة من تلك المؤشرات والترويج لأطباق القصيم في مهرجانات الطهي العالمية، مما سينعش السياحة في المملكة؛ الأمر الذي يتسق مع رؤية 2030 في تنويع مصادر الدخل، بعيدا عن النفط.

دعم مهرجانات الطعام

فيما طالبت مزنة الفهيد، بدعم تجارب مهرجانات الطعام في مختلف مناطق المملكة، لأهداف عدة؛ أبرزها: إبراز الأطباق التقليدية التي تمثل جزءًا أساسيًا من التراث السعودي، وتوفير منصة مهمة لتبادل الخبرات والتفاعل بين المهتمين بفنون الطهي في المملكة وحول العالم، وتقديم تجربة طعام محلية بطابع عالمي.

وأكدت ضرورة تشجيع الحرفيين والأسر المنتجة في المنطقة المُنتجين لهذا الموروث من خلال تسليط الضوء على منتجاتهم المتنوعة عبر مناطق عديدة تشمل عروض الطهي الحي، أجنحة الضيافة، وعروض المخابز، وعربات الأطعمة المتنقلة وغيرها من الفعاليات التي تتخللها العديد من العروض الثقافية والترفيهية الحية التي تعكس تجربة ثرية وممتعة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version