الأربعاء 18 جمادى الأولى 1446هـ

مثل عدّاء سريع يمكنه العدْو تحت أشعة الشمس الحارقة والأراضي الجافة والوعرة، يبدو “دخن الفونيو” -المعروف علميا باسم “ديجيتاريا إكسيلس”- بالرغم من هذه الميزة المهمة لا يربح أبدا في سباق “العائد” عند دخوله في منافسة مع محاصيل الحبوب الرئيسية، إذ إن إنتاجيته أقل بكثير من الأرز والذرة والقمح.

و”دخن الفونيو” هو حبوب صغيرة الحجم وغنية بالقيمة الغذائية، ويشتهر بنموه السريع (يمكن حصاد حبوبه في غضون شهرين أو ثلاثة بعد الزراعة) وفترة نضجه القصيرة، وهو أقدم محصول محلي في غرب أفريقيا، ويُشار إليه أحيانا باسم “الأرز الجائع” نظرا لحبوبه التي تشبه الأرز، ولأهميته كغذاء أساسي في العديد من دول غرب أفريقيا، خاصة في المناطق التي ينتشر فيها ندرة الغذاء والجوع.

وقد اهتم العلماء بالبحث عن وسيلة يمكن من خلالها مساعدة هذا العدّاء السريع على الأداء بشكل أفضل من أجل الفوز في سباق “العائد”. وأعلن فريق بحثي من جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية “كاوست” في دراسة نشرتها دورية “ميكروبيوم”، أنهم وجدوا الحل، ويكمن في تحسين حذاء الجري الخاص به وهو “الميكروبات الموجودة حول بذوره”.

فإذا تخيّلنا البذرة -وفق هذا المثال- بمثابة “الحذاء” الذي يساعد العداء على العدو، فإن تحسين كفاءة أدائها يمكن أن يحقق النتيجة المرجوة. ووجد الباحثون أن كلمة السر لتحقيق ذلك تكمن في تحسين ارتباطها بـ”الميكروبيوم” الخاص بها.

ويشير “ميكروبيوم البذور” إلى مجتمع الكائنات الحية الدقيقة، بما في ذلك البكتيريا والفطريات والميكروبات الأخرى التي توجد داخل البذور وعلى سطحها، وهذه الكائنات الحية الدقيقة ضرورية لصحة النبات ولياقته.

سرّ أهمية “ميكروبيوم البذور”

ترتبط النباتات التي تنمو في الظروف القاحلة بميكروبات التربة وتتفاعل معها، مما يساعدها على مكافحة التحديات اللاأحيائية (العوامل أو الضغوط البيئية غير الحية التي يمكن أن تؤثر في نمو النباتات وتطورها وبقائها).

ولأن قائد الفريق البحثي الأستاذ ببرنامج علوم النبات بجامعة “كاوست” هيريبرت هيرت ومجموعته البحثية، متخصصون في التفاعلات بين الميكروبات والنبات، وتشخيص دور هذا التفاعل في نمو النبات وتطوره، وامتصاص العناصر الغذائية، والحماية من الإجهاد الحيوي، فقد أرادوا كشف دور “ميكروبيوم بذور الفونيو” في مختلف الظروف اللاأحيائية.

فبحثوا في مواقع مختلفة بغرب أفريقيا يخوض فيها “الفونيو” سباق الإنتاج، ودرسوا تنوّع الفطريات البكتيرية المصاحبة للبذور لمعرفة كيف أثرت في أدائه في السباق.

كما تحققوا مما إذا كانت الظروف الجوية المختلفة -مثل الطقس الحار أو الأيام الماطرة- غيّرت نوع الفطريات البكتيرية المصاحبة للبذور. وقاموا بدراسات الارتباط على مستوى الجينوم لأنواع مختلفة من الفونيو لتحديد المواقع الجينية المرتبطة بتنوع الفطريات الداخلية للبذور.

ماذا وجد الباحثون؟

وجد الباحثون أن “الميكروبيوم الأساسي” لبذور الفونيو كان متشابها بغض النظر عن المكان الذي عاش فيه النبات. ويشير “الميكروبيوم الأساسي” إلى الكائنات الحية الدقيقة التي تكون عادة مرتبطة بمضيف عبر عينات أو مواقع مختلفة. وفي سياق دخن الفونيو وجد الباحثون أن هناك مجموعة من الكائنات الحية الدقيقة التي توجد باستمرار في بذوره بغض النظر عن الموقع الجغرافي أو العوامل البيئية الأخرى.

وبخلاف هذا “الميكروبيوم الأساسي” الذي لا يتغير، وجدوا أن العوامل البيئية قد تؤثر في التنوع الميكروبي. ولاختبار تأثير العوامل البيئية، جمعوا بيانات الأرصاد الجوية وبيانات التربة (هطول الأمطار ودرجة الحرارة ودرجة الحموضة وبنية التربة) في مواقع التجميع المختلفة، ووجدوا علاقة بين العديد من هذه العوامل والتنوع الميكروبي، مما يشير إلى أن العوامل البيئية قد تؤثر في التركيب الميكروبي للبذرة.

كما نجحوا في تحديد عدد من الجينات المعروفة والجديدة التي يبدو أنها تؤثر في تنوع المجتمعات الميكروبية في مجموعات “الفونيو” المختلفة، مما يشير إلى أن مجموعات “الفونيو” المختلفة تنظم أيضا وراثيا تكوين ميكروبيومات البذور الخاصة بها.

هندسة الميكروبات.. طريق الاستفادة

وعن كيفية الاستفادرة من النتائج، تقول الباحثة ببرنامج علوم النبات بـ”كاوست” ناهد تبسم في بيان صحفي أصدرته الجامعة: “يوجد داخل البذرة بيئات أو مساحات مختلفة يمكن أن تعيش فيها الكائنات الحية الدقيقة، تشمل هذه المناطق غلاف البذرة (الطبقة الخارجية للبذور) وأنسجة التخزين (الجزء الداخلي من البذرة حيث يتم تخزين العناصر الغذائية)، وتوفر هاتان المنطقتان موائل فريدة للكائنات الحية الدقيقة، وعندما تنتقل الكائنات الحية الدقيقة من النبات الأم إلى ذريته من خلال البذور (عملية تعرف باسم الانتقال العمودي)، فمن المحتمل أن تعزز صحة ونشاط الجيل القادم من النباتات، والعمل على انتقال الكائنات الحية الدقيقة المفيدة من جيل إلى جيل يوفر فرصة جديدة لتحصين ذرية الأنواع النباتية، ويفتح تطبيقا جديدا في تربية المحاصيل”.

وتضيف أن “هندسة ميكروبات البذور لإنتاج مستقلبات مستهدفة، يمكن أن يساعد في تحقيق ذلك، لضمان تحقيق خصائص محسنة، مثل زيادة الإنتاجية”.

والمستقلبات جزيئات صغيرة تنتجها الكائنات الحية كجزء من عمليات التمثيل الغذائي الخاصة بها، ويهدف الباحثون من استهداف المستقلبات إلى التأثير على إنتاج مركّبات محددة ذات خصائص مرغوبة، يمكن أن تشمل هذه العناصر الغذائية أو المواد الكيميائية النباتية أو الهرمونات أو غيرها من المواد النشطة بيولوجيا.

ومن خلال “هندسة ميكروبات البذور” بإجراء معالجة أو تعديل في الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش في البذور أو عليها؛ يمكن دفع الميكروبات إلى إنتاج جزيئات أو مركبات محددة لها خصائص أو وظائف مرغوبة، وذلك باستخدام طرق التكنولوجيا الحيوية المختلفة لتغيير التركيب الجيني أو المسارات الأيضية للكائنات الحية الدقيقة المرتبطة بالبذور، وقد تشمل هذه الأساليب تقنيات الهندسة الوراثية مثل تحرير الجينات أو أساليب البيولوجيا التركيبية.

إثبات المفهوم لا يكفي

لا تخرج هذه الدراسة -رغم ما توصلت له من نتائج- عن كونها “إثباتا لمفهوم ما”، كما يقول أستاذ المحاصيل بجامعة جنوب الوادي (جنوب مصر) عبد المحسن عيد. ويرى عيد أنه حتى تكتمل الاستفادة مما توصلت له الدراسة، لا بد من دراسات لاحقة للإجابة على عده أسئلة هي:

  • ما هي الأدوار المحددة التي تلعبها الأصناف الميكروبية الفردية داخل ميكروبيوم البذور في نمو النبات وتطوره وتحمله للإجهاد؟
  • كيف تتفاعل الأنواع أو السلالات الميكروبية المختلفة مع بعضها البعض ومع النبات المضيف؟
  • ما هي الآليات الجزيئية الكامنة وراء التأثيرات المفيدة للميكروبات المرتبطة بالبذور على صحة النبات وإنتاجيته؟
  • كيف تؤثر هذه الميكروبات في عملية التمثيل الغذائي للنبات وتنظيم الهرمونات والاستجابات الدفاعية؟
  • ما هي الإستراتيجيات الأكثر فعالية لهندسة ميكروبات البذور لإنتاج مستقلبات مستهدفة أو تعزيز سمات النبات؟
  • كيف يمكننا ضمان استقرار وسلامة المجتمعات الميكروبية المهندسة في البيئات الزراعية؟

وبدوره أعلن قائد الفريق البحثي هيريبرت هيرت أنهم لن يتوقفوا، وقال في البيان الصحفي: إن” القيمة الأساسية لعملهم هي إظهار أنه توجد إمكانيات كبيرة لتعزيز الفهم للتفاعل بين ميكروبيوم النبات والبيئة وفي هندسة ميكروبيوم البذور للمحاصيل، والذي حُدد كهدف محتمل لتعزيز قدرة المحاصيل على مقاومة الإجهاد المناخي بطريقة مستدامة”.

ويبقى الوصول إلى هذا الهدف مرهونا بالإجابة التفصيلية على الأسئلة الستة التي حددها عيد، والتي يمكن أن تقود في النهاية لمعرفة كيفية تحسين أداء الميكروبات بما يساعد “الأرز الجائع” على الأداء بشكل أفضل في سباق العائد.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version