الأربعاء 18 جمادى الأولى 1446هـ

وثقت رسامة الكاريكاتير الفلسطينية أمية جحا في يومياتها ذات الـ10 أجزاء والتي تنشرها الجزيرة نت، الأوضاع الإنسانية القاسية التي تدور أحداثها خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا سيما محيط مستشفى الشفاء، الذي وصفته منظمة الصحة العالمية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في تقريرها الدوري بأنه “منطقة موت”.

بين يديك عزيزي القارئ الحلقة الثالثة من اليوميات، التي تنشر تباعا على مدى الأيام المقبلة وتروي فيها سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته، والسيدة تحب القطط والعصافير والجيران، وترسم اللوحات، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024) وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.

الجمعة 27 أكتوبر/تشرين الأول

لم تتوقف الصواريخ، ولا صوت القذائف، من كل حدب وصوب منذ الصباح، في محيط مشفى القدس، والذي يبعد حوالي كيلومترين عن مشفى الشفاء.

كان الاحتلال قد قام بتهديد مشفى القدس عدة مرات بضرورة الإخلاء، لأنه سيتم قصفه، ورفضت إدارة المشفى الرضوخ للتهديدات.

لم يصدق أي أحد أن الاحتلال سيتجرأ على قصف أماكن مُحصنة بالقوانين الدولية الإنسانية، خاصة أنه لم يكد يغسل يديه الملطختين بالدماء من عار جريمته النكراء بحق مئات المدنيين النازحين في مشفى المعمداني.

دبّ الذعر والهلع في قلوب آلاف النازحين، الذين يفترشون أرض مشفى الشفاء، بعد تهديد الاحتلال للمشفى بالقصف أيضا، وبثه دعاية إعلامية بأنّ تحت المبنى تتمركز قيادة المقاومة العسكرية..

ولم يكتف الاحتلال بذلك الادّعاء الفاجر، بل قام كذلك بقطع شبكات الاتصال والإنترنت حتى لا يتمكن الناس من الاتصال ببعضهم بعضا، ولا ينقل للعالم الخارجي ما يحدث داخل القطاع. حتى توقع الجميع أن إبادة من تبقى من الشعب هي ما يخطط له الاحتلال عن سابق إصرار وترصد، وعن سابق صمتٍ دوليٍّ وعربي مشين. وربما يُقدم فعلا على قصف المشفى بمن فيه من عشرات آلاف النازحين والمرضى والجرحى..

كنت أخشى على أمي وأبي اللذين لم يرق لهما النزوح إلى المشفى بسبب سوء وضعهما الصحي، فعادا لبيت العائلة برفقة بعض أحفادهما الشباب. وكنت أخشى على ابنتي وزوجها القاطنين في معسكر جباليا، الذي يتعرض دوما للقصف الهمجي. لقد كانت رسائل الجوال وسيلتي الوحيدة في الاطمئنان، ولكن حتى هذه الوسيلة حظروها الآن عن كل سكان القطاع..

وعلى غير العادة، نام كل الأطفال باكرا بلا استثناء حتى الرضع، الذين كانوا يشكلون إزعاجا لا يُطاق في أرجاء المكان في وقت المساء. شعرت حينها وكأن الله قد آمنهم بالنعاس والنوم، فلم يستيقظ أحدٌ منهم مع أشدّ أصوات القصف عتيًّا..

كانت جدران المشفى تهتز مع كل صوت عنيف، وتبرق السماء بانفجار الصواريخ، في وقت تتعالى فيه أصوات الجميع بالدعاء والتضرع إلى الله. كنت أبكي بصمت. ما ذنب هؤلاء الأطفال والنساء ليتشردوا بهذا الشكل المهين. كان مشهدهم وهم نيام أشبه بجثثٍ لفظها البحر، فتوزعت بغير انتظام، بعضها فوق بعض. وبعضهم يغط في سباتٍ عميق في أحضان أمهاتهم. كيف ستُمحى هذه التغريبة من ذاكرتي؟

كان الممرضون في محطة التمريض يقومون بتهدئة الخائفين، لم أجد أصبر منهم مع كل هذا الازدحام، الذي تمدد إلى مكتبهم أيضا. فقاموا بتخفيف الإنارة حتى يهدئوا من روعنا، ولكن سيدة في الثلاثينيات من عمرها، تُدعى ثائرة، استبدّ بها الخوف، صارت تبكي بشكلٍ هستيري، تريد إشعال الإنارة، وتمّ لها ما أرادت. رغم أني كنت أتمنى إطفاءها حتى لا يستيقظ الأطفال النائمون.

وثائرة هذه كان لها الكثير من المواقف المضحكة، فما من مشكلة تحدث في المكان إلا وتثور وتدخل فيها بقوة، تريد تهدئة أطرافها، ولكنها سرعان ما تخرج منها وهي تبكي بعدما يقوم أحد الأطراف بشتمها أو ضربها. حتّى إنّنا صرنا نستحلفها أن تلوذ بالصمت، ولا تحشر نفسها إن حدثت مشكلةٌ جديدة حتى لا تلقى المصير ذاته..

كان في المشفى أيضا طاقم طوارئ من النساء والرجال، يضعون شارة خاصة على صدورهم، ويترددون طوال الوقت بين النازحين، يبثّون الطمأنينة فيما بينهم، ويزيلون الخوف الذي استبد بالكثيرين منهم بسبب قوة القصف وقربه من المشفى.

لقد اجتمع علينا سواد الليل، وشدة القصف، والانقطاع الهاتفي، والانعزال عن العالم، ولم يبق لنا سوى الله، نبث إليه غربتنا وخذلان أمتنا. فليس لها بعدُ من دون الله كاشفة.

ومع تعالي صوت القصف وقربه، صار كل من في العنبر يتضرع إلى الله، وقامت إحدى السيدات بإلقاء كلمات التثبيت ورفع المعنويات، وضرورة زيادة الايمان بالله، وكثرة الاستغفار، مما كان لذلك دورٌ كبير في بسط السكينة في المكان، إلى أن خفّ القصف تدريجيا وابتعد، وتوقفت الأحزمة النارية التي كانت تضرب بضراوةٍ قريبا من المشفى.

لم أبرح مساحتي الصغيرة على الأرض، وخلفي الكثير من الحقائب والأكياس، وحولي عشرات الأنفاس والأجساد الصغيرة والكبيرة، وعلى يميني شباكٌ كبير بعرض سبعة أمتار وبارتفاع مترٍ ونصف المتر تقريبا، يطل على السماء الفسيحة، التي لم تكن تحوي نجوما، بل كانت وحدها طائرات الاحتلال الحربية الطاغية تحوم بعنف، وتقذف قنابل مضيئة في الفضاء، لا لتنشر النور للقطاع، الذي قُطعت عنه الكهرباء منذ أول الحرب، بل لتبحث عن فرائس جديدة، من أجساد البيوت والأبرياء، لتحيلها ركاما وأشلاء..

وضعت كلتا كفي وسادة لرأسي، وسبحت في دموعي الحرى، ودعائي أن نصل شاطئ الأمان حيث لا حرب ولا خوف ولا نزوح ولا احتلال يقتل أبسط حقوقنا المشروعة في الحياة والأمن والحرية، ولا بواكي لنا حتى من أبناء جلدتنا..

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version