الأربعاء 18 جمادى الأولى 1446هـ

في العام 1989 حصل الروائي الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا على جائزة نوبل في الآداب، بعد أن كان الروائي المصري نجيب محفوظ قد حاز عليها في السنة السابقة مباشرة.

وقتها كان هذا الأمر مثيرًا للانتباه لأن العالم الذي كانت روايات “محفوظ” تدور فيه، كان يعنى بتفاصيل الحياة في مدينة القاهرة، في حين يدور عالم رواية “خلية النحل”، التي منحت ثيلا الجائزة نفسها، حول تفاصيل الحياة في العاصمة الإسبانية مدريد، رغم أن هناك فارقا لافتا هو أن روايات “محفوظ” تتحرك في فضاء الزمان التاريخي للقاهرة، في حين تتحرك جميع روايات ثيلا في الفضاء المكاني لمدريد.

فالمكان في رواية “خلية النحل” لخوسيه ثيلا ظل قادرًا على إنتاج قصص تتماشى مع فترة تاريخية محددة، كانت فيها البيئة الاجتماعية تعاني من اضطرابات متلاحقة، تمكّن ثيلا عبر العناصر الروائية من رسمها لتظهر فيها الحوادث والشخصيات بوضوح، ولتظهر أيضًا العلاقات التي تربط بينها وبين الأمكنة المختلفة من فنادق ومقاهٍ وبيوت وشوارع لا تمنح الفرصة للعابر الذي اعتاد على المكان لتجاوز حدود “الخلية”، أو المدينة التي يعيش فيها. تلك المدينة الضيقة التي يستطيع ساكنوها سماع كل خبر يسري فيها، ومعرفة كل واقعة تكون قد حدثت، وهو هنا لا يقصد مدينة “مدريد” وحدها، بل إسبانيا بكل ما تحتويه من مدن ومن بشر.

تنقسم رواية “خلية النحل”، التي صدرت فى إسبانيا خلال القرن العشرين والتي تعد واحدة من أعظم مئة رواية، إلى ستة فصول، وتنتهي بخاتمة منفصلة، في وقت لا تتساوى فيه الفصول التي تتوزع عليها في أعداد كلماتها. وبسبب هذه الرواية، احتل خوسيه ثيلا مكانة مرموقة في الأدب الإسباني ليصبح أكثر مبدعي اللغة الإسبانية ترجمةً وشهرة، خصوصًا بعد حصوله على جائزة نوبل وجوائز أدبية أخرى كجائزة ثيربانتس في 1995، وهي أشهر وأهم جائزة إسبانية، مما جعل من خوسيه ثيلا واحدًا من كبار كتاب القرن العشرين بعد ميغيل دي سيرفانتس مؤلف “دون كيشوت”.

سجل توثيقي

وتعد رواية “خليّة النحل” بمثابة سجل توثيقيّ لواحدة من المراحل المفصليّة التي عرفها تاريخ إسبانيا خلال زمن كان فيه الصوت الأعلى يعود إلى أدب الدول الناطقة باللغة الإسبانية، غير أن هذه الرواية على وجه التحديد تكفّلت وحدها بتمثيل إسبانيا، في الوقت الذي كان فيه الحديث يشير إلى ما تحتويه من عمالقة في أدب الرواية المعاصر، لأنها باختصار هي رواية مدريد عام 1942، ومدريد “فرانكو”، التي يرصد كل تفاصيلها بعد مرور ثلاثة أعوام على نهاية الحرب الأهلية، حيث تعامل سرديًا مع “المنتصرين” و”المهزومين” كضحايا يعانون معا من الأحاسيس نفسها بالمرارة.

تتوزع أحداث “خليّة النحل” على تلك المساحة التي تشغلها أيام معدودة في مدريد خلال العام 1943، أي بعد فترة محدودة من انتهاء الصراع الأهلي الذي شهدته تلك الحرب، التي أتاحت لنظام الجنرال فرانشيسكو فرانكو، الذي كان يحظى بدعم غربي غير محدود، أن يمارس أبشع أنواع القمع والتسلط على مجتمع جريح.

وتتبع هذه الرواية تقنية سردية لم تكن مألوفة في السرد الإسبانيّ خلال ذلك الوقت، وعبر ذلك يظهر النص وكأنه مجرد تجميع لشرائح متناثرة، يتم تنظيمها في ضفائر، من الواقع الذي كان في ذلك الوقت مجزّأ، لتليها بعد ذلك مقاطع حوارية يتم انتزاعها من قلب صخب الحياة اليوميّة، ودون أن تكون هناك أية خطة واضحة، وعندئذ تكون مهمة الروائي قد تم تحديدها في السعي لتجميع هذه المقاطع العفويّة معًا.

من هنا يمكن القول إن رواية “خلية النحل” هي مجرد تجميعات لعديد من الحكايات المتناثرة، التي يتم توزيعها على فصول الرواية، لكي تنعكس عليها دورة زمن الأحداث، وتلك القصص التي تقطعت أوصالها أيضًا، وخلال ذلك فإن القارئ سرعان ما يدرك أنها تنمو على شكل عدد من اللقطات غير المتتالية، لكنها تتجاور في النهاية مع لوحات للرسم، وما يتناثر فيها من شخصيات وأمكنة، وتنويعات للظلال والأضوء التي تغمرها.

هذه التقنية التي استخدمها خوسيه ثيلا في رواية “خلية النحل” هي التي كانت السبب وراء كثرة الشخصيات في تلك الرواية، التي يكتشف القارئ بيسر أنه لا يوجد ترابط بينها، فالشخصيّات تتجاوز حدود الثلاثمئة، وتتوزع في الوقت نفسه على جميع الطبقات، من الرجل البالغ الثراء الذي لا يعنيه سوى البحث عن لّذة عابرة، إلى المتسول المتشرد الذي لا يجد له سقفا يؤويه، وحتى في الحوارات، التي تحتشد بها الرواية، فإن خوسيه ثيلا لا يخبرنا بتفاصيل مشبعة عن خلفيّة هؤلاء الذين كانوا يتحدثون.

سرد مدهش متقلب المزاج

ومع ذلك، فإن تلك الرواية تبقى عملاً سرديا مدهشًا، سجل فيه خوسيه ثيلا إنجازه الأبرز من خلال التمكن الذي دفعه للتحرر من الأنساق اللغوية الإنشائية، والابتعاد عن الأسلوب التقليدي في السرد الروائي، وهو الأمر الذي قام باستثماره بكفاءة عبر اعتماده في السرد أسلوب ضمير الراوي، العالم بما تفكر به شخصياته وتحلم وتشعر، والذي يكون على معرفة تامة بتاريخها وبمصائرها أيضًا، وهو ما يظهر بوضوح في دقة البيانات التي يقرنها الراوي بكل شخصية.

ذلك ما جعل رواية “خلية النحل” تتسم بتقنية متفردة كانت هي الأكثر عمقًا وقدرة على الحفاظ على تماسك بنية الرواية، إضافة إلى اشتغالاته التي اعتنت بمسرحة الأمكنة، والتي ساهم في اتساع رقعتها ودفعها لكي تنبض الحياة فيها. فقد قدم ثيلا شخوصه باعتبارهم مجرد “وجهة نظر” أو موقفًا من الواقع، وراح يستعرضهم عبر طريقة التقديم الإخباري المباشر، بالطريقة نفسها التي يؤديها مصور الكاميرا الذي يستخدمها للبث الوثائقي.

كان الكاتب الروائي يجلس في مقهى “دونيا روزا” بينما يواصل نقل ما يحدث للمتلقي، الحركة التي تقوم بها مالكة المقهى بين الزبائن، وانتقالاتها المستمرة من إحدى الطاولات إلى أخرى، مشيرا إلى أنه على كل طاولة يجلس زبونها اليومي المعتاد، ومن كل طاولة تتسلل حكاية عن أولئك الزبائن الذين نجوا من بين فكي رحى الحرب الأهلية الإسبانية، لكن قبضة حكم فرانكو الحديدية كانت بانتظارهم.

وعلى الرغم من أن معظم النقّاد اتفقوا على تصنيف رواية “خليّة النحل” في خانة الواقعيّة، فإنّ خوسيه ثيلا خالف هذا الرأي، واعتبرها نصا “متقلب المزاج” وأقرب إلى الفوضى، مؤكدًا أنها في المجمل أقرب شبهًا بـ”الحياة في مدينة عشوائية مفتقدة للنظام”.

لكن هذا الرأي لم يكن غريبًا أن يصدر عن كاتب مثير للجدل بقوة مثل ثيلا، فالجدل حوله استمر لوقت طويل حتى بعد وفاته سنة 2002، فهو على الرغم من إصداره نحو مئة عمل أدبي، فإنه قد اتهم بسرقة إحدى الروايات، وقد أوصله هذا الاتهام إلى المحكمة بعد أن ادّعت “كارمن فورموسو” أنه سرق روايتها “كارمن، كارميلا، كارمينا” ونشرها تحت عنوان “صليب سان أنريس”. ومنذ أن مات ثيلا، لا تزال هذه القضية مفتوحة.

الرقيب الروائي

غير أن المثير للدهشة حقًا هو أن كاميلو خوسيه ثيلا، مؤلف رواية “خلية النحل”، كان يعمل في الرقابة على المطبوعات هو الآخر، وكان أيضا زميلا لأندريس لوكاس، الرقيب الذي كتب عن ثيلا تقريرًا خاصا كان هو السبب وراء عدم إجازة نشر رواية “خلية النحل” في إسبانيا. فقد كان ثيلا من أنصار فرانكو المتحمسين، وعلى الرغم من إعلان عدم لياقته بسبب معاناته من مرض السل، فإنه انضم للجيش الوطني الفرانكيستا.

كما عُيّنَ رقيبا على المصنفات الأدبية والصحفية خلال سنوات الحرب، وبقي بعد انتهائها زميلا لممثلي تلك المؤسسة الرقابية، لكنه حين قدم روايته “خلية النحل” من أجل الموافقة على نشرها، تقرر رفضها بسبب أنها “تهاجم العقيدة والأخلاق”، الأمر الذي دفعه إلى نشرها في الأرجنتين عام 1945-1946، لكنها عادت إلى إسبانيا لتنشر فيها عام 1951.

عالم الحكاية

وإلى جانب ذلك، فقد نشر بعض أنصار فرانكو وثيقةً قديمة تؤكد تعامله مع جهاز القمع الفاشي، مما جعل الكثيرين يتهمونه بخيانة قناعاته، وقد أثّرت هذه الحادثة على حياته مدة طويلة، وقد أكد هؤلاء أنه حينما دارت رحى الحرب الأهلية الإسبانية في عام 1936، كان كاميلو خوسيه في عمر 20 عاما وكان يتعافى من مرضه، وكانت ميوله السياسية محافظة، غير أنه هرب إلى منطقة التمرد، ثم تطوّع بصفته جنديًا، لكنه جُرح ونُقل إلى المستشفى، وحارب بالفعل إلى جانب فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية، غير أنه فيما بعد أصبح واحدا من منتقديه.

وعندما أصدر روايته الأولى “عائلة باسكوال دوارتي” كان في 26 عاما. هذه الرواية التي أصبحت نموذجا لفن روائي جديد، بل لتيار أدبي سمّي في إسبانيا ما بعد الحرب الأهلية، وهو تيار ذو نزعة جنائزية ومرعبة أعقب التيار الواقعي الذي كان سائدا في مرحلة ما قبل الحرب.

وإذا كان من الصعب حصر تجربة ثيلا في نوع واحد، أو مدرسة واحدة أو تيّار معين، نظرا إلى اختباره أنواعا شتى من الكتابة، فإن عالمه الروائي يصعب تصنيفه بدوره تبعا لتعدد معالمه وأدواته أو تقنياته. فهو عالم يتفاوت بين المأساة والسخرية والحكاية أو الخرافة والمسرحة والمشهدية، علاوة على تدرّجه بين الواقعية والتخييل، بين الالتزام والهجاء، بين الوصف والتعبيرية.

ومن رواياته الأخرى التي أصدرها “طاحونة الهواء” و”سان كاميلو” و”مغامرات لاثاريو دي تورمِس وعثراته الجديدة” و”رحلة إلى القرية” و”السيدة كالدوِل تتحدّث مع ابنها” و”الشقراء” و”مقهى الفنانين”، وله عدد من كتب الرحلات، وله أيضًا كثير من القصص القصيرة والمسرحيات والمقالات الصحفية، التي كتبها بعدما صار عضوًا في الأكاديمية الإسبانية في 1957.

وفي ذلك العام (1957) قرر الاستقرار في جزيرة مايوركا، وأصدر من هناك مجلة أدبية، واستغرق في العمل على إصدار عدد من المؤلفات التي تميزت بالتجديد اللفظي أكثر من تميزها بالشخصيات والحبكة، واعتمد فيها على تشويه الواقع بخلق عدد من الشخصيات المتطرفة والعنيفة، وربطها ببيئتها العائلية والاجتماعية.

الحرب الأهلية

كانت الحرب الأهلية الإسبانية هي الهاجس الذي رافق حياة ثيل لدرجة أنه ما إن كان يتناساها حتى يعود إليها. ولذلك فإن روايته “سان كاميلو 1936” الصادرة في العام 1969، تمثل أجمل عودة إلى أجواء تلك الحرب الشائكة. لكنّه عبر عودته هذه تعمّد تبديد ظلال الأيديولوجيات التي كانت في حال من المواجهة خلال الحرب الأهلية، التي أسفرت عن “مليون قتيل”، حين اندلعت يوم 18 يوليو/تموز 1936، وتحديداً في يوم عيد القديس كاميو، وكان خوسيه ثيلا وقتها في العشرين من عمره.

ولعل ما يختتم به الكلام عن عالم ثيلا هو ما كتبه الناقد الفرنسي كلود كوفون حين قال إنه من ثيلا تمكن من بناء مؤلفاته عبر إلقائه وساوسه وهواجسه الممزوجة بشراسة السخرية السوداء، و”قد تمكن من بناء عالم روائي تقيم قسوته الساحرة نية صانعه، ومن خلال ذلك، فضح أوهام التاريخ والأسطورة والممنوعات التي تشل البلاد”.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version