الأربعاء _13 _أغسطس _2025AH

ويعكس هذا الصراع تحولا في موازين القوى العالمية، ويعبّر عن رغبة كل طرف في تأمين نفوذه الاقتصادي والجيوسياسي عبر البحار.

وفي هذا السياق، تأتي تصريحات ناصر زهير، رئيس قسم الشؤون الاقتصادية والدبلوماسية في المنظمة الأوروبية للسياسات، خلال مقابلته في برنامج “على الخريطة” على قناة “سكاي نيوز عربية”، لتكشف أبعادا جديدة وتفسيرات معمقة لهذه المنافسة.

ويقدم زهير رؤية تحليلية توضح كيف نجحت الصين في استغلال ظروف وتحديات الاقتصاد العالمي لتعزيز مكانتها البحرية والاقتصادية، بينما يبحث الغرب عن استراتيجيات لمواجهة هذا التوسع المتسارع.

القوة الصينية في بناء السفن: صناعة عملاقة تهيمن على الأسواق العالمية

يبدأ الصراع البحري من نقطة القوة الصناعية، حيث كشفت البيانات أن الصين بنت أكثر من 250 سفينة بإجمالي 14 مليون طن في 2024، متفوقة بشكل كبير على الولايات المتحدة التي بنت 5 سفن فقط بوزن 76 ألف طن خلال نفس الفترة.

ويمتلك قطاع بناء السفن الصيني أكثر من 300 حوض بناء تحت إشراف الدولة، مقابل 4 أحواض نشطة فقط في أميركا.

ويتضح هنا أن الصين لا تركز فقط على بناء سفن تجارية ضخمة، بل أسست قاعدة صناعية ضخمة تشمل تصنيع 96 في المئة من حاويات الشحن الجافة عالميا و70 في المئة من رافعات البضائع، ما يوسع من نفوذها البحري التجاري ويعزز قدرتها على دعم أساطيلها العسكرية.

ويؤكد زهير أن هذا التفوق الصيني في الصناعة البحرية يعكس سياسة طويلة الأمد تقوم على الاستثمار المكثف والتخطيط الاستراتيجي، وهو ما يجعل الصين قادرة على استغلال الأزمات العالمية، كما حدث أثناء جائحة كورونا، لتوسيع سيطرتها على سلاسل التوريد البحرية.

الموانئ الاستراتيجية: بناء شبكة نفوذ بحري عالمي

لا يقتصر النفوذ الصيني على بناء السفن فقط، بل يمتد إلى السيطرة على الموانئ الاستراتيجية، حيث تمتلك الصين أو تدير استثمارات في 95 ميناءً حول العالم، من بينها موانئ رئيسية في ماليزيا (كوانتن)، سريلانكا (هامبانتوتا)، إسرائيل (حيفا)، ومصر (العين السخنة).

ويوضح زهير أن هذه الموانئ ليست فقط نقاطا لرسو السفن التجارية، بل تشكل شبكة متكاملة تتيح للصين مراقبة تدفقات التجارة العالمية، وتأمين خطوط إمدادها الاستراتيجية.

ويعد مضيق ملقا، الذي يمر عبره 70 في المئة من نفط الشرق الأوسط المتجه إلى آسيا، أحد أهم هذه الممرات التي تسعى بكين إلى تأمينها عبر استثماراتها المتزايدة.

ويضيف زهير أن هذه السيطرة على الموانئ تضع الصين في موقع مهيمن ليس فقط على الناحية الاقتصادية، بل تمنحها أيضا أداة ضغط جيوسياسي مؤثرة، إذ يمكن لهذه الشبكة أن تؤثر على حركة التجارة العالمية في أوقات التوتر.

البحرية الأميركية: تفوق تقني في مواجهة التفوق العددي

وبينما تهيمن الصين على الجانب العددي والأساسي لصناعة السفن والموانئ، تحافظ البحرية الأميركية على تفوق نوعي وتكنولوجي، حيث تمتلك 299 سفينة حربية تشمل حاملات طائرات نووية، غواصات متطورة، وأنظمة صاروخية متقدمة.

لكن زهير يشير إلى أن التحديات التي تواجهها صناعة بناء السفن الأميركية، مثل ارتفاع التكاليف ونقص العمالة الماهرة، تؤخر تحديث وتوسيع الأسطول، مما يضعف القدرة على المنافسة على المدى الطويل.

ويذكر زهير أن تحركات الإدارة الأميركية، خصوصا في عهد ترامب، ركزت على دعم الصناعة المحلية وتقليل الاعتماد على الصين، لكنها لا تزال تواجه صعوبات كبيرة في تحقيق هذا الهدف بسبب الفوارق الصناعية والتقنية.

التعدين في أعماق البحار: ساحة جديدة للتنافس الاستراتيجي

مع تزايد أهمية المعادن النادرة المستخدمة في التكنولوجيا المتقدمة والطاقة النظيفة، يشكل التعدين البحري مستقبلا جديدا للصراع بين الصين والغرب.

وبحسب تصريحات زهير، تمتلك الصين أكبر عدد من تراخيص التنقيب في قاع البحار الدولية، حيث حصلت على 5 تراخيص تشمل مساحة تزيد عن 92 ألف ميل مربع، مما يمنحها تفوقا في الحصول على الموارد المعدنية الحيوية.

هذا التفوق يسمح للصين بالهيمنة على سوق المعادن الأرضية النادرة، والتي تمثل 95 في المئة من العرض العالمي، إضافة إلى السيطرة على 75 في المئة من إنتاج بطاريات الليثيوم.

ويرى زهير أن هذه الاستراتيجية الصينية ليست مجرد استثمار اقتصادي، بل هي تحضير لهيمنة طويلة الأمد على الصناعات المستقبلية، خاصة في ظل تصاعد المنافسة على الطاقة النظيفة والتكنولوجيا الحديثة.

دور أوروبا والتحديات أمام النفوذ الصيني

وناقش زهير دور أوروبا في مواجهة التوسع الصيني، مشيرا إلى أن الاتحاد الأوروبي يشكل أحد القوى الاقتصادية الكبرى لكنه يعاني من ضعف في الاستثمار الصناعي وعدم القدرة على منافسة الصين في قطاع بناء السفن والموانئ.

وبيّن زهير أن أوروبا بدأت تلجأ إلى الأدوات التشريعية والسياسية، مثل فرض قيود على الاستثمارات الصينية وحماية صناعاتها المحلية، لكنها تواجه صعوبة في بناء بدائل فعالة لسلاسل التوريد التي تهيمن عليها الصين.

ويتابع زهير قائلا إن جائحة كورونا كانت بمثابة جرس إنذار أظهر هشاشة الاعتماد الأوروبي على الصين، مما دفع إلى خطوات إعادة تقييم السياسات الاقتصادية وتقليل الاعتماد على الصين تدريجيا، لكن التحول يستغرق وقتا وجهدا كبيرين.

التحالفات الدولية: المفتاح لمواجهة التنين الصيني

ولن تكون المواجهة مع النفوذ الصيني، وفق زهير، ممكنة دون بناء تحالفات دولية واسعة تجمع الولايات المتحدة وأوروبا والهند والدول الخليجية.

ويشدد على أن هذه التحالفات يجب أن تتخطى الأبعاد العسكرية لتشمل التعاون الاقتصادي والتكنولوجي، بهدف إعادة توجيه سلاسل التوريد وبناء قدرات صناعية مشتركة.

كما يشير إلى أن الدول النامية تلعب دورا محوريا في هذا الصراع، حيث تستخدم الصين استثماراتها الاقتصادية لتعزيز نفوذها، وهو ما يتطلب من الغرب تقديم بدائل اقتصادية جذابة لتلك الدول.

صراع المحيطات بين الصناعة والتكنولوجيا والتحالفات

يبرز من تحليل تصريحات زهير أن المعركة البحرية بين الصين والولايات المتحدة ليست مجرد تنافس على الأساطيل الحربية، بل هي صراع متعدد الأبعاد يشمل الصناعة، الاقتصاد، التكنولوجيا، والتحالفات الدولية.

الصين بنت لنفسها قاعدة صناعية ولوجستية ضخمة تمكّنها من السيطرة على أجزاء كبيرة من التجارة البحرية والموارد الطبيعية، بينما تحافظ الولايات المتحدة على تفوقها التقني والعسكري.

في هذا السياق، يظل بناء التحالفات الدولية وتحديث الصناعات الغربية شرطا أساسيا للحفاظ على توازن القوى، خاصة في مواجهة توسع الصين المستمر.

المحيطات، التي كانت سابقا مجرد مساحات مائية، تحولت اليوم إلى مسرح حاسم للصراع الاستراتيجي في القرن الواحد والعشرين، حيث تلعب الصناعة، التقنية، والتحالفات السياسية دورا محوريا في رسم ملامح النظام الدولي القادم.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version