الأربعاء 18 جمادى الأولى 1446هـ

شكّل اكتشاف فريق من معهد باستور الفرنسي فيروس “إيدز” (AIDS) قبل 40 عاما الخطوة الأولى في معركة شرسة ضد هذا الوباء، الذي أدى إلى وفاة 40 مليون شخص.

وأكد مقال نشرته مجلة “ساينس” (Science) العلمية يوم 20 مايو/أيار 1983 “عزل” الفيروس الجديد.

لكنّ أصحاب الاكتشاف، وهم العلماء فرنسواز باري سينوسي وجان كلود شيرمان ولوك مونتانييه، آثروا اعتماد نبرة حذرة في المقال، إذ كتبوا أن هذا الفيروس “يمكن أن يكون له دور في عدد من المتلازمات المرضية ومنها الإيدز”.

وكانت البحوث المتعلقة بالإيدز يومها في بداية طريقها، إذ إن المرض الجديد كانت تحوم حوله الكثير من الألغاز.

التنبيهات الأولى

كانت التنبيهات الأولى صدرت قبل ذلك بعامين في الولايات المتحدة، إذ سجّلت في صيف عام 1981 إصابات بأمراض نادرة كتكيسات الرئة وساركوما كابوزي في صفوف الشبان الأميركيين المثليين جنسيا، وفق ما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية.

وتساءل الأطباء عن سبب تفشي هذه الالتهابات “الانتهازية” التي تصيب عادة الأشخاص ذوي الصحة الضعيفة جدا والشبان المثليين جنسيا الذين لا يزالون يتمتعون بصحة جيدة.

وأشار الخبراء الأميركيون إلى أن “وباء ينتشر لدى الرجال المثليين ومدمني المخدرات”. ولم يكن بعد لهذا المرض أي اسم، لكنه كان يتفشى.

أما مصطلح الإيدز المؤلف من الأحرف الأولى لعبارة “متلازمة نقص المناعة المكتسب”، فبدأ يُستخدم اعتبارا من سبتمبر/أيلول 1982.

فرضية الفيروسات القهقرية

لم يكن سبب الإيدز معروفا بعد. وبدأ البعض يتحدث عن كونه من “الفيروسات القهقرية”، ومنهم الأخصّائي الأميركي الكبير في هذا النوع من الفيروسات المسببة للسرطان روبرت غالو.

على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، في باريس، بدأ مختبر الأورام الفيروسية الذي يديره لوك مونتانييه في “معهد باستور” بالعمل أيضا.

في بداية عام 1983، أخذ أخصائي الأمراض المعدية الباريسي ويلي روزنباوم في مستشفى بيتييه سالبيتريار خزعة من الغدد الليمفاوية لمريض في مرحلة مبكرة من الإيدز.

وفي الثالث من يناير/كانون الثاني من العام ذاته (1983) بدأ مختبر “معهد باستور” العمل على فحصها. وروى مونتانييه الذي توفي عام 2022 في كتابه “عن الفيروسات والبشر” أنه “عند حلول الليل (..)، بدأت العمل”.

مع فرنسواز باري سينوسي وجان كلود شيرمان، اكتشفا فيروسا قهقريا جديدا سمّياه مؤقتا LAV) Lymphadenopathy Associated Virus) أي الفيروس المصاحب لاعتلال العقد اللمفية.

وقالت سينوسي لوكالة الصحافة الفرنسية “لقد عزلنا الفيروس وأثبتنا أنه فيروس قهقري لكننا لم نكن متأكدين بعد من أنه سبب الإيدز”.

لم يكن أحد يصدقّنا

قوبل نشر الاكتشاف في مايو/أيار 1983 في “ساينس” بتشكيك من البعض وخصوصا روبرت غالو.

أما فريق معهد باستور فتعزز اقتناعه بأن “إل إيه في” (LAV) مسؤول عن الإيدز.

قدم مونتانييه بيانات في هذا المعنى في سبتمبر/أيلول 1983 إلى مجموعة من الخبراء، من بينهم غالو، لكنّ التفاعل كان محدودا.

وقال مونتانييه “كنا نعلم طوال عام أننا اكتشفنا الفيروس الصحيح (..) لكن لم يكن أحد يصدقنا، ورُفضت منشوراتنا”.

وأحدث إعلان لغالو في ربيع 1984 دويا كبيرا، إذ نشر سلسلة مقالات أفاد فيها بأنه اكتشف فيروسا قهقريا جديدا هو “إتش تي إل في-3” (HTLV-3) اعتبر أنه “السبب المحتمل” للإيدز.

في 23 أبريل/نسان من العام ذاته، أعلنت وزيرة الصحة الأميركية مارغريت هيكلر رسميا أن روبرت غالو وجد السبب “المرجح” للإيدز.

وفي اليوم نفسه، قدم غالو طلب براءة اختراع في الولايات المتحدة لإجراء اختبار فحص الإيدز بناءً على اكتشافه، فحصل عليه فورا. ورُفض طلب مماثل قدمه “معهد باستور” في وقت سابق بعد اكتشافه “إل إيه في” (LAV).

ولكن ما لبث غالو ومونتانييه أن اتفقا على أن “إتش تي إل في-3” هو نفسه “إل إيه في”.

فيروس العوز المناعي البشري

وبعد إعطاء الدليل عن كونهما فيروسا واحدا في يناير/كانون الثاني 1985، أُطلِقَت على الفيروس الجديد عام 1986 تسمية فيروس العوز المناعي البشري (human immunodeficiency virus).

ووقع جدل كبير بشأن تحديد هوية المكتشف الحقيقي للفيروس، انتهى بحل دبلوماسي مؤقت عام 1987 -وفقا لما قالته وكالة الصحافة الفرنسية- مع توقيع الولايات المتحدة وفرنسا تسوية وُصف فيها غالو ومونتانييه رسميا بأنهما “شريكان في الاكتشاف”.

وهذا الخلاف لم يكن مجرّد مسألة افتخار معنوي بالإنجاز الطبي، بل هي مسألة ذات أهمية كبيرة في تحديد الجهة المخولة الحصول على العائدات المرتبطة بفحوص الكشف عن الفيروس.

لكن الخاتمة الفعلية حصلت بعد عقدين، مع منح جائزة نوبل للطب عام 2008 ليس لغالو، بل للفرنسيين مونتانييه وباري سينوسي وحدهما “لاكتشافهما” فيروس العوز المناعي البشري.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version